التبصر الاجتماعي

11 يونيو 2022
11 يونيو 2022

في ظل عالم يسوده (عدم اليقين) تسعى المجتمعات اليوم إلى التنافس على بناء بصيرتها الاجتماعية، وهي بإيجاز القدرة على إيجاد خط متصل بين وقائع الماضي وتعرجاته، ومعترك الحاضر وأحداثه وإشاراته وتحولاته، والقدرة على رسم سيناريوهات متعددة للمستقبل وتوفير أدوات للتكيف معه والتعاطي المرن مع ما يعد به من تحولات وانعكافات وأحداث، وقد تبدو المسألة في ظاهرها عملًا استحاليًا لكن ثمة أدوات ومنهجيات بدأت الكثير من دول العالم توظفها اليوم لتيسير هذه المهمة.

والغاية هنا ليست رسمًا دقيقًا لما سوف يحدث بكافة الأركان والحيثيات والأبعاد، ولكن هي محاولة لفهم المسالك والبنيات التي صنعتها أحداث الماضي فشكلت الحاضر وتصنعها اليوم تشخيصات الواقع لترسم الطريق إلى المستقبل، ببعديه "المستقبل الذي نريده"، والذي يعدنا به الزمن.

ترتكز فكرة التبصر الاجتماعي social-foresight على نهج أعمق من فكرة التنبؤ وفكرة الاستشراف ذلك أنها تنطلق من تضمين الخبرات الاجتماعية والمعيشية لأفراد في سياق مجتمعي وزمني وجغرافي معين، وكيف صاغت تلك الخبرات والتجارب نهج تفكيرهم وتدبيرهم لمعيشهم تاريخيًا ولأنماط تسيير حياتهم الاجتماعية حاضرًا، وكيف أثرت العمليات الخارجة عنها في تشكيل مجرى السلوك – التفكير لديهم سواء كانت تلك العمليات في صيغة تدابير تعليمية أو صحية أو خدمية أو ثقافية أو كانت في صيغة أدوات وتقانات بدلت نمط إنتاجهم وتنقلهم واستهلاكهم، وما هي احتياجاتهم الراهنة ومدى قدرة النظام الاجتماعي والسياسي والاقتصادي القائم على تلبية تلك الاحتياجات ومواكبتها وتدبيرها، وماهية العوامل الخارجة عن ذلك النظام التي قد تؤثر في مكنته وقدرته وبالتالي يتأثر أو يستأثر بها أفراد مجتمعه، وصولًا إلى حيز التبنؤات على مستوى الوعود التكنولوجية والتقنية أو على مستوى التحول الكمي للظاهرة الاجتماعية في سياقها الديموغرافي والاقتصادي أو على مستوى التحول في البيئة الطبيعية والظروف المناخية. تلك الأركان الأساسية التي تجري فيها عملية التبصر الاجتماعي يندرج تحت كل واحد منها عدد لا متناه من الأسئلة التي تقود في محصلتها إلى رسم صورة لسيناريوهات المستقبل. وهذه الصورة لا تعتمد فقط على النهج الكمي بأن نقول سوف يتضاعف النمو السكاني بنسبة كذا وسيكون نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي مقدرًا بكذا وإنما تتجاوز تلك المعطيات الكمية إلى محاولة فهم الاتجاهات الاجتماعية العامة وأنماط التفكير التي قد تظهر وتتبلور والاتجاهات الثقافية التي قد تسيطر وتتحكم في إنتاج الأفراد واستهلاكهم وتطلعات الحاضر ووسائل تدبير الناس لتلبيتها مستقبلًا. والرغبات الجمعية والنظم التي قد تنشأ لتغطيتها في سياق حركة المجتمع العامة.

يقول عالم المستقبليات بوب جوهانسن: "إن المفتاح هو أن تكون واضحًا فيما يتعلق بذلك -أي المجتمع- إلى أين أنت ذاهب وكن مرنًا فيما يتعلق بكيفية الوصول إلى هناك، مع التزود ببعد النظر. ومع ذلك لن تتوصل إلى خطة ثابتة ومستقيمة نحو مستقبل واحد، ولكن مجموعة من المهارات والاستراتيجيات القابلة للتكيف لأي نوع من المستقبل قد يحدث". وتشير الأدبيات المرتبطة بمسألة التبصر الاجتماعي إلى أنه على الرغم من تضخم مخاطر عدم اليقين في العالم اليوم إلا أن ذلك يقابله على الجانب الآخر تحسنًا في أنماط وأدوات التفكير ومنهجيات التقصي. ولكن يبقى الرهان هو في الكيفية التي تطرح بها الأسئلة المناسبة لتتبع وضع المجتمعات في المستقبل وكيف تؤثر العوامل المتداخلة في صياغة سيناريوهاته وفق ما يعرف بـ"التدرجات الاحتمالية" التي تقتضي طرح أسوأ السيناريوهات التي قد تحدث إلى أكثرها مثالية.

في سنغافورة يعمل Centre for Strategic Futures على إيجاد نهج يساعد الحكومة المركزية في عمليات التبصر في أوجهه المختلفة ويقيم مؤتمرًا دوريًا خاصًا بمسائل التبصر وفي آخر نسخة من المؤتمر في 2019 ركزت أعماله على فكرة "المجتمع 4.0 Society 4.0" وركزت جلساته وأوراق العمل المطروحة فيه على إيجاد سيناريوهات تبصرية للمجتمع في ضوء ثلاثة أبعاد رئيسة هي الأفراد والعلاقات والوقت والقيم. وفي ألمانيا يركز Social Foresight Lab على إيجاد "نهج تشاركي مبتكر نحو التنمية الريفية ونقل التكنولوجيا لمواجهة تحديات التنمية الريفية من خلال الجمع بين تقنيات التبصر وتقييم الاحتياجات وتطوير الاستراتيجيات للمناطق التي يعمل فيها المختبر ويستهدفها وهي المناطق الريفية أخذًا في الاعتبار الخصائص الإقليمية، ومبادئ التعاون أصحاب المصلحة الإقليميين، وإدماج الابتكارات التكنولوجية والاجتماعية في التنمية الإقليمية".

ويفرض الواقع لدينا في سلطنة عُمان -حسب تقديرنا- إيجاد وحدة معنية بشأن التبصر الاجتماعي سواء كانت في صيغة كيان مستقل أو مضمنة في إحدى الكيانات الإدارية القائمة. ومما يستدعي وجود ذلك الحاجة إلى إيجاد منظور وطني تكاملي لفرص ومخاطر التحولات الاجتماعية سواء تلك التي يفرضها السياق العالمي أو تلك التي تنشأ نتيجة السياسات الاجتماعية القائمة.

ويتجاوز بذلك التقديرات الكمية إلى رؤى تفصيلية تقترح على السياسات العامة تدابير بعينها لاحتواء التغير الاجتماعي وقضاياه الناشئة مستقبلًا وتدفع باتجاه إيجاد مقاربات احتوائية – تكيفيه للأنماط الاجتماعية الناشئة سواء في مستويات السلوك أو الفعل أو المشاركة الاجتماعية أو التصورات والأفكار والاتجاهات الثقافية الناشئة. ويمكن لهذه الوحدة/ الكيان أن يستفيد من إرث منهجيات وأدبيات التبصر الاجتماعي التي أصبحت تتوالد عالميًا بشكل متسارع. ويمكن لهذه الوحدة/ الكيان أن تعمل بمنهج طيف التفكير الشامل الذي يقتضي دراسة الترابطات والعلائق المباشرة وغير المباشرة بشكل غير قطاعي وإنما بطريقة تبصرية / استراتيجية فعلى سبيل المثال كيف يمكن لتبني سياسة عمل معينة أن تؤثر ليس فقط على قطاع التشغيل وأسواق العمل ولكن على الاتجاهات السكانية والديموغرافية وعلى أنماط الاستهلاك لدى الأفراد وعلى نشوء معتقدات وتصورات وأفكار جديدة في السياق المجتمعي وعلى تبني الأفراد لنهج جديدة في إدارة وتدبير شؤونهم المالية.

وقس على غرار ذلك من الأسئلة التبصرية التي لا تنظر إلى حيز القضية الموضوعة وحدها وإنما إلى كل اشتباكاتها وسيناريوهاتها المحتملة.