الانتحار الإسرائيلي.. هل هو ممكن ؟
هناك قرارات ذات طبيعة انتحارية قد تتخذها بعض القيادات، والمقصود بها تلك القرارات التي قد تؤدي إلى نتائج ضارة أو كارثية للدولة ولمصالحها بشكل أو بآخر، وبينما تختلف تلك القرارات في آثارها ونتائجها وظروفها، إلا قرارات الحروب هي من أكثر القرارات الانتحارية شيوعا بغض النظر عن الأوهام الكثيرة التي قد تصاحب ظروف اتخاذها، أو القناعات الشخصية التي تتخذ شكل التسلط على ذهن وتفكير بعض القيادات لأسباب قد تحتاج إلى أدوات التحليل النفسي لفهمها أحيانا، والمأساة هي أن الشعوب هي التي تدفع الثمن الذي يكون فادحا في النهاية، والأمثلة في هذا المجال عديدة ومتكررة ونعيشها عمليا داخل المنطقة وخارجها أيضا.
وإذا كان حريق أوكرانيا لا يزال مشتعلا، ولا يبدو انه سيخمد أو ينتهي قريبا، فإن نذر حريق كبير آخر تتجمع في الأفق، ونقصد بذلك رقصة نتانياهو وقيادات إسرائيل المتطرفة حول حلبة النار والتلويح المتزايد بشن حرب على إيران بحجة منعها من امتلاك سلاح نووي، وهو ما تقف فيه واشنطن معها، أوبمعنى أدق بالقرب منها، ليس دعما لقرار الحرب ضد إيران بالمطلق لمنعها من امتلاك سلاح نووي، بقدر ما هو مسايرة من نوع ما لميول نتانياهو، في محاولة لاحتوائه بشكل ما، للحد من اندفاعه في هذا الاتجاه الخطر، لعلها - واشنطن - تتمكن من التوصل إلى اتفاق مع إيران في محادثات فيينا حيث يسعى بايدن إلى إبرام اتفاق جديد يعفيه من مخاطر التهور الإسرائيلي بشكل ما.
ولكن السؤال هو هل إسرائيل متهورة بالفعل ؟ وهل نتانياهو يمكن أن يغامر بشن حرب على إيران بشكل صريح ومباشر لمنعها من امتلاك سلاح نووي ؟ وتحت أية ظروف يمكن أن يتورط في مثل تلك المغامرة الانتحارية ؟ على أية حال فإنه يمكن الإشارة باختصار شديد إلى ما يلي:
أولا: انه بالرغم من أن نتانياهو هو أكثر القيادات الإسرائيلية التي تعهدت علنا ومرارا بمنع إيران من امتلاك سلاح نووي، إلا أن هذا الأمر ليس حتميا، ليس فقط لأن السياسة لا تدار بالتصريحات العلنية، رغم أهميتها ودلالاتها أحيانا في التعبير عن المواقف، ولكن أيضا لأن قرار الحرب ليس سهلا في اتخاذه، وخطير بالتأكيد في نتائجه، ومن ثم فإنه أصعب بكثير مما يتخيله كثيرون، خاصة في هذه الحالة. أما الضجيج والتحذيرات المتكررة فإنها تكشف فقط عن درجة القلق المتزايدة على الجانب الإسرائيلي التي لا تغطيها طائرات الشبح ولا الغواصات القادرة على حمل صواريخ نووية، وهذا ما تفهمه القيادة الإيرانية جيدا.
ولكن السؤال هو هل هناك تناقض وجودي بين إسرائيل وإيران يقتضي السير في الصدام إلى نهاية الشوط ولو بالحرب ؟ الإجابة باختصار شديد هي بالنفي !! نعم بالنفي، بغض النظر عن التفكير بالتمني لدى بعض القيادات التي تعول بشكل تام تقريبا على المدى الذي يمكن أن تذهب إليه إيران في عدائها لإسرائيل، ناسية - تلك القيادات - أن إيران من الدول القديمة وذات التاريخ في المنطقة، وأنها كانت ولسنوات طويلة لها علاقات دبلوماسية وتجارية مع إسرائيل حتى الثورة الإسلامية في فبراير 1979، وحتى بعدها بعدة سنوات كانت " إيران كونترا " شاهدا على علاقات تحتية غير معلنة بين واشنطن وتل ابيب وطهران لتزويد طهران بقطع غيار طائرات الفانتوم الإمريكية التي كانت تحتاجها طهران بشدة خلال الحرب العراقية الإيرانية قبل أن تتوقف في عام 1988. وإذا كانت إسرائيل قد تعايشت مع حزب الله اللبناني منذ إنشائه عام 1980، وتتعايش معه منذ حرب 2006، وهي مستعدة لاستمرار تلك الهدنة معه، وهو كذلك، بغض النظر عن ضجيج التصريحات، فإن إيران تمتلك بالتأكيد رؤية وأفقا ومصالح أوسع بكثير،اقتضت وتقتضي ما اتبعته من سياسات قبل الثورة الإسلامية وبعدها، وهو ما تدركه أيضا كل الأطراف، على الأقل في مستويات معينة لديها القدرة على رؤية ما هو أبعد من تحت الأقدام. أما القضية الفلسطينية، فإن الجميع، بمن فيهم الفلسطينيين، يدركون جيدا حدود المواقف والإمكانيات بالنسبة لكل الأطراف، وقد مروا وتعرضوا لمواقف عديدة وضعت الكثير من النقاط على الحروف بالنسبة لمواقف العديد من القوى والأطراف والمدى الذي يمكنها الوصول إليه أو الذي ترغب في الوصول إليه حسبما تفرضه مصالحها الوطنية. وهذه أمور لا تقبل المجاملة ولا المساومة غير المحسوبة تحت أية ظروف، إلا إذا كانت تدحرجا أو انجرارا نحو الانتحار بشكل أو بآخر.
ثانيا: إنه إذا كان من المعروف، بمعايير القوة والقدرة، أن إسرائيل من أقوى دول المنطقة، خاصة أنها تمتلك عشرات القنابل النووية، إلا أن ذلك لا يعني أنها مطلقة اليد في استخدام القوة ضد إيران لتدمير قدراتها النووية، نعم شنت إسرائيل بالتعاون مع واشنطن هجمات إلكترونية ضد مواقع نووية إيرانية، وتسللت أحيانا إلى داخل بعض المواقع وخربت بعض مرافقها، واغتالت علماء نوويين إيرانيين، وهي مستمرة في حربها هذه دون هوادة، ولكن التورط في حرب مباشرة في شكل غارات جوية أو قصف صاروخي، أو عمليات خاصة سريعة ضد بعض المواقع، هو في الواقع بمثابة انتحار إسرائيلي؛ لأن عناصر ومكونات البرنامج النووي الإيراني ليست محصورة في مفاعلين أو ثلاثة، ولا في مواقع قليلة ولكنها موزعة في مواقع عدة ومتباعدة، فضلا عن إنها محمية جيدا، بمعدات دفاع جوى وبطبقات كثيفة من الأسمنت المسلح وعلى أعماق بعيدة في بطون الجبال. وهو ما يقلل في الواقع من كفاءة وفاعلية الغارات الجوية، ويفرض الحاجة إلى شن الكثير منها، واستخدام نوعيات متطورة من القنابل التي تستخدم ضد الملاجئ والمواقع شديدة التحصين. وحتى مع توفر بعض هذه الذخائر لإسرائيل إلا أنه ليست هناك أية ضمانات للنجاح في إتمام المهمة إذا حدثت جدلا. وحتى بعد المناورات الجوية الاستراتيجية الأخيرة بين الطيران الأمريكي والإسرائيلي، فإن الأمر ينطوي على مخاطر جمة، خاصة إذا شنت ميلشيات داعمة لإيران هجمات متزامنة ضد إسرائيل من أكثر من اتجاه لإرباكها بشكل أو بآخر، وهو أمر تخوفت، وتتخوف منه، قيادات أمنية إسرائيلية. يضاف إلى ذلك أنه إذا شنت إسرائيل غارات ضد مواقع نووية إيرانية، فأن قرار إنهاء أو وقف الحرب لن يكون قرارا إسرائيليا ولا أمريكيا فقط، هذا فضلا عن أنه مهما كان حجم التدمير الذي قد تتعرض له المواقع الإيرانية التي سيحميها الشعب الإيراني بأجساده، فأن ذلك قد يعطل البرنامج الإيراني ربما لثلاث سنوات أو أقل ولكن ليس إلى الأبد بالتأكيد، وهو ما يعني في أحسن الاحتمالات مكسبا تكتيكيا، ولكن خسارة استراتيجية لإسرائيل ستظل تتحمل تبعاتها لسنوات طويلة.
ثالثا: بغض النظر عن تلويح بايدن باستخدام " كل الوسائل " لمنع إيران من امتلاك سلاح نوي إلا أن واشنطن لا تريد شن حرب على إيران، فهي لا تريد الوصول في عدائها مع إيران لهذه الدرجة، إدراكا منها لأهمية إيران الاستراتيجية، وأملا في عودة العلاقات معها إذا تم التوصل إلى اتفاق نووي جديد، كما أنها تدرك أن تل أبيب في حاجة إلى موافقة أمريكية لكي تبدأ هجوما ضد إيران، وذلك ليس تصريحا أو موافقة على الحرب فقط، ولكنه موافقة على المشاركة فيها ودعم إسرائيل، تحسبا لأية تطورات محتملة، ويكاد يكون هذا هو شرط إسرائيل لشن حرب تظل بمثابة قرار انتحار بالنسبة لها، خاصة في ظل الظروف الإقليمية والدولية الراهنة، وليس مصادفة أن تؤكد واشنطن هذا الأسبوع " أنه ليس لديها ما يؤكد اتخاذ طهران قرارا بصنع سلاح نووي ".
