الاتصال الاستراتيجي ومسار تحقيق رؤية عُمان 2040
في مقالات سابقة عبر هذه المساحة تحدثنا بشكل مستفيض عن مفاهيم «السرد الاستراتيجي»، وكيف يمكن للمؤسسات والحكومات على حد سواء تغيير خطاب الاتصال نحو خطاب سردي من شأنه أن يضع كافة الأطراف (أصحاب المصلحة) على خط سواء من ملكية (الخطط/ الاستراتيجيات/ الرؤى/ التوجهات) المؤسسية والوطنية. إلا أن «السرد الاستراتيجي» ما هو إلا أداة ضمن نطاق ما يُعرف بـ «الاتصال الاستراتيجي»، والذي أصبح الكثير من الدول تعيد التفكير في سياساته وأنظمته ووثائقه الناظمة خاصة بعد عدة متغيرات شهدتها السنوات الأخيرة؛ بما في ذلك الأزمات المالية والاقتصادية المتعاقبة، والجوائح والأوبئة، والحركات الاحتجاجية الاجتماعية، وصعود التيارات الشعبوية في مقابل فقدان الثقة بالنخب السياسية والدولة. إذن شكلت كل هذه العوامل مختبرًا واسع النطاق للحكومات والمؤسسات لإعادة التفكير في مأزق الاتصال والتواصل مع المواطنين/ المستفيدين. وتبيّن لها الكثير من عتبات ومخاطر هذا الاتصال في مقابل صعود نجم (التفضيلات الذاتية للأفراد - الثقة في المجموعة الاجتماعية في مقابل الكيان الاجتماعي الأكبر - الذات الناقدة وفق معايير عابرة للحدود). وهو ما يتطلب الوضع في الاعتبار ثلاث نقاط أساسية: التواصل الشفاف - البناء التعاوني لملكية المشروعات والخطط والبرامج والاستراتيجيات - الاتصال الاستراتيجي المستمر والمكثف.
تفاعل المجتمع في عُمان في الأيام الفائتة مع اللقاء الحواري «معًا نتقدم»، الذي نظمته الأمانة العامة لمجلس الوزراء وتخلله حوار مفتوح بين المسؤولين والمواطنين عبر ثلاثة ملفات أساسية وهي (مسار رؤية عُمان 2040 - الاستدامة المالية - التشغيل). ومثل هذه اللقاءات من شأنها أن تسهم -حسب تقديرنا- في تحقيق ثلاث منافع في سياق «الاتصال الاستراتيجي»: أولها: التحول من التواصل الإعلامي إلى «الاتصال الاستراتيجي»، وثانيها: تحقيق ما يُعرف بـ «Symmetrical-ethical communication» وهنا لا يكون الاتصال عبر تلقي رسالة محددة الاتجاه من أحد الطرفين تجاه الآخر؛ بقدر ما تكون هناك مساحة لكل طرف (ممثلي الحكومة - المواطنين) من توضيح وجهات النظر/ المعتقدات/ الآراء/ وحتى المشاعر الجمعية العامة، التي يمكن لاحقًا للمؤسسات تحديد مسارها واتجاهاتها واستخدامها كإحدى وسائل تشخيص الرأي العام/ الاتجاه العام. أما ثالث تلك المنافع فهو مرتبط بالسياق المحلي وهو (توضيح المفاهيم). في السنوات الأخيرة شهدت البلاد إطلاق عديد البرامج الاستراتيجية والخطط التنفيذية والقطاعية والبرامج الوطنية، ومع حلول الأزمة الصحية (كوفيد 19) وتبعاتها الاقتصادية والمالية، وتواكبها أيضًا مع انطلاق تنفيذ رؤية عُمان 2040 صارت الكثير من المفاهيم (متداخلة) على الأقل لدى بعض شرائح المجتمع، ما الذي يرتبط بالرؤية فعلا؟ وما البرامج والتوجهات (الاستثنائية) التي حتمتها ظروف الأزمة الصحية والاقتصادية؟
ما المسارات التي تجري فيه البرامج الوطنية المسرعة لتنفيذ الرؤية؟ وما المسارات التي تفرضها ضرورات المرحلة لتحقيق التوازن المالي والتعافي الاقتصادي؟ كل هذه المفاهيم أصبح من الضرورة بمكان تكثيف عمليات «التواصل الاستراتيجي» لفك اشتباكها ولتحليل المسار الفعلي لكل الاتجاهات الوطنية.
وإن كان «معًا نتقدم» هو خطوة في مسار تعميق «الاتصال الاستراتيجي»، فالمؤمل البناء على هذه التجربة لتوسيع نطاق هذا الاتصال، يمكن ذلك عبر اختيار أحد (الملفات الوطنية) في كل فترة (شهر - ثلاثة أشهر) وعمل لقاء للتواصل الحكومي الاستراتيجي حول الملف، مع تنويع من تُوجَّه إليهم الرسالة (إعلاميين - فئة الشباب - عموم المجتمع - الفاعلين في المجتمع المدني - طلبة الجامعات والكليات - العاملين في حقول معينة...). كما أننا نرى بضرورة العمل على ما أشرنا إليه في مقالات سابقًا بإيجاد (إطار وطني جامع للمشاركة المجتمعية)، بحيث يحدد الإطار أجندة المشاركة بوصفها معبرة عن نمط من أنماط «الاتصال الاستراتيجي». ومحدداتها وسياساتها ودوريتها والتزاماتها عبر مختلف المستويات (القيادات الحكومية - الإدارات المحلية - الإدارات القطاعية...) وأن يكون الإطار وثيقة مرجعية جامعة لتنظيم كافة عمليات المشاركة المجتمعية وفق أفضل الممارسات والنهج المتبعة. يمكن التفكير كذلك في فكرة «مركز الاتصالات الحكومية» بشقيه «الاتصال الهاتفي»، و«الاتصال عبر الإنترنت»، وتخصيصه لتلقي مداخلات المواطنين عبر القطاعات الخدمية المختلفة. ويمكن تسهيل العملية وفلترتها عبر الأدوات «التقنيات» الحديثة المتاحة: «الرد والفلترة الآلية لبعض المداخلات - التخصيص - البيانات الضخمة»، مما قد يساعد في تشخيص ومراكمة البيانات حول طبيعة الخدمات الحكومية، واتجاهات الأفراد إزاءها ومعرفة أكثر القطاعات التي يهتم المواطنون بالتداخل وإبداء الرأي حولها.
تحدد الممارسات الدولية الفضلى في مجال «الاتصال الاستراتيجي الحكومي» بما في ذلك -إطار الاتصال الاستراتيجي لحكومة المملكة المتحدة- ثلاث مهمات أساسية لعملية «الاتصال الاستراتيجي» بين الحكومة والمواطنين وهي:
- فهم الجمهور وسلوكياتهم من أجل التشخيص الفعّال للمشكلات وتقديم المشورة بشأن المسار الأنسب للعمل. وهنا يجب على القائمين على عملية الاتصال الاستراتيجي أن يكونوا قريبين من البيانات والرؤى، وأن يفهموا السياق الذي تعمل فيه عملية الاتصال وأن يكتشفوا الاتجاهات والمخاطر والفرص طويلة الأجل.
- عندما يتم وضع استراتيجيات الاتصال الحكومي، لا بد من النظر في نطاق التدخلات وأدوات الاتصال المتاحة لهم للمؤسسة (القائم بالاتصال)، مما يضمن اختيار الأدوات الأكثر فاعلية.
- لا بد أن توضح عملية الاتصال الاستراتيجي السياسات الحكومية المعقدة وأن يكون القائم بالاتصال قادرا على تحديد المفاهيم والسياسات وإيصالها للجمهور.
إن «الاتصال الاستراتيجي» (الفعّال) -في تقديرنا- هو الاتصال الذي يُراكم تجاربه، ويبني عليها، ويوسع في مساحاتها قياسًا بتفاعل المستهدفين، ويرفع بين حين وآخر سقف المشاركة، وأجندتها وينتقل من حالة (الإعلام) إلى حالة (الاتصال التعاوني والتشاركي) الذي معه يعاد التفكير في الأجندة الوطنية باختلافها واختلاف مستوياتها، ومعه أيضًا تصبح للأفراد المُكنة المعرفية/ المهارية لاقتراح التدخلات على مستوى السياسات العمومية بما يُحقق تجويدها وتسريع مسارات تحققها وجودة مخرجاتها ورفع مستويات الرضا العمومي عنها.
مبارك الحمداني مهتم بقضايا علم الاجتماع والتحولات المجتمعية في سلطنة عمان
