الإعلام وبناء السردية والتأثير المجتمعي

20 سبتمبر 2025
20 سبتمبر 2025

في عناصر قوة الدولة تبرز (المعلوماتية) نفسها كأحد العناصر الداعمة لعناصر القوة الرئيسية؛ متمثلة في بناء سردية مقنعة للداخل والخارج حول وجهة نظر الدولة وعملها وحراكها وجهودها وقدراتها، وفي بناء اتصالٍ مستدامٍ وموثوق مع الفاعلين في الداخل والخارج للحفاظ على صورة الدولة وتعزيزها وتمكين حضورها. وفي العقود الأخيرة تم الترويج بشكل واسع لتفوق الإعلام المستقل (Independent Media) وصحافة المواطن (Citizen Journalism) على حساب إعلام الدولة (State Media) نظير عدة عوامل أهمها: توسع شبكات الإعلام الخاص سواء تلك الممولة من الأفراد أو الدول وتمارس صفة عالمية، تزايد إمكانيات الربط بين الإعلام بوسائله التقليدية (صحافة - إذاعة - تلفزيون..) والإعلام الجديد (منصات - مدونات - مواقع تواصل اجتماعي..) في حضور الإعلام المستقل، انخراط الأفراد في الصناعة الإعلامية عبر منصاتهم الذاتية والحرة (حسابات تواصل اجتماعي، بودكاست، صحف إلكترونية ونشرات، قنوات مرئية..) وهو ما أدى ببعض الراصدين والمتتبعين إلى الاعتقاد الجازم بأن عصر إعلام الدولة قد انتهى، وأن المحافظة على عنصر (المعلوماتية) إنما يتأتى من خلال تطويع أشكال الإعلام الناشئة لخدمة أغراض الرسالة الإعلامية للدولة بطريقة أو بأخرى.

ومع اعتقادنا بسطوة الإعلام المستقل والانتشار الهائل لما يُعرف بصحافة المواطن، إلا أننا نعتقد أنه لا زالت هناك بعض عناصر القوة والسمات التي يمكن أن يستثمر فيها من قبل إعلام الدولة، كما أن هناك بعض الضرورات الآنية التي تفرض اليوم التركيز بشكل موسع على إعادة الاعتبار وتعزيز إعلام الدولة بمختلف سردياته ومؤسساته وفاعليه ورسالته. فمن العناصر التي ما زالت متاحة وتشكل أداة قوة لإعلام الدولة - خاصة في سياق دولنا العربية - مسألة السيطرة على مصادر المعلومة، وهو ما يعني امتلاك خصيصة (الحصرية) خاصة فيما يتعلق بالسياسات والتوجهات والمشروعات المتصلة بعمل الدولة، والأحداث الحساسة فيها، والقضايا التي تشكل حاضرها ومستقبلها، ومن العناصر كذلك تكاملية البنى التحتية للمؤسسات والتجهيزات المرتبطة بالإعلام من منشآت ومعدات وتقانات وأجهزة وأدوات، عوضًا عن القدرة للوصول إلى العنصر البشري وتأهيله وتدريبه بما يتسق مع مقاصد الرسالة الإعلامية. كما أن إعلام الدولة لا زال يحظى في سياقات جغرافية كثيرة بالمتابعة والموثوقية من قبل شرائح واسعة من السكان - وإن تعرضوا لأشكال الإعلام الأخرى - ففي سلطنة عُمان على سبيل المثال، يظهر استطلاع المركز الوطني للإحصاء والمعلومات حول (رأي المواطنين حول محتوى وسائل الإعلام المحلية - يونيو 2022) أن 70% من العُمانيين يشاهدون قنوات تلفزيون سلطنة عُمان، وما نسبته 74% من العُمانيين يستمعون إلى القنوات الإذاعية المحلية في سلطنة عُمان؛ ويأتي على مقدمة تفضيلاتهم (إذاعة الشباب) التي تعتبر أحد أهم الإذاعات الحكومية وهو ما يمثل امتدادًا لا يزال قائمًا للثقة في إعلام الدولة - وإن اختلفت ظروف ومحطات الاستماع وطبيعة ومنهجية الاستطلاع -.

وما زالت هناك تقارير ودراسات عالمية تثبت أنه حتى مع هيمنة الإعلام المستقل وصحافة المواطن لا يزال طيف واسع من الأفراد في مختلف الدول يعطي ثقة بوسائل إعلام الدولة، ففي دراسة أجرتها جامعة Northwestern University تشير النتائج إلى أن 61% من المواطنين في دول الشرق الأوسط يقولون إنهم يثقون بالإعلام في بلدانهم (المقصود الصحف/التلفزيون/الراديو - وغالبًا تلك التي تكون مملوكة أو مرتبطة بالدولة في كثير من الأسواق). العنصر الأهم الآخر الذي يمكن لإعلام الدولة أن يستثمر فيه دونما أشكال الإعلام الأخرى هو قدرته على صنع السردية (Creating narratives)، وهو العنصر الذي نادرًا ما استطاع الإعلام المستقل وصحافة المواطن القبض عليه - باستثناء بعض أشكال الإعلام المستقل ذات التاريخ والمؤسسة الكبرى والعابرة للحدود - وفكرة صنع السردية نقصد بها بناء الصورة المتكاملة لحدث ما، من فورية المعلومات المرتبطة بحدوثه، إلى التفسير الموسع لكل أبعاده، إلى القدرة على خلق اتجاهات عامة لدى المتلقين حوله، إلى فكرة استبقاء تأثيره في الذاكرة الجمعية. في تقديرنا أن كثيرا من وسائل إعلام الدولة لديها المكنة الواسعة لخلق مثل هذه السرديات والتحكم متى ما توفرت ثلاثة عناصر رئيسة: الإعلامي المهني والجاد - الابتكار في المحتوى - تنويع وسائل الوصول إلى المتلقين.

في تعرضنا المحدود لمقررات الإعلام في الدراسة الجامعية كان يقال دائمًا أن ما يميز الإعلام التقليدي عن الإعلام الجديد هو وجود مساحة أفضل لتفسير الخبر، ونعتقد اليوم أن القدرة على التفسير المحكم ضرورة لوسائل إعلام الدولة لمواجهة عدة استحقاقات يفرضها الواقع الذي نعيشه، ومنها: تعقيد الأحداث ووفرة المعلومات حولها؛ وهو ما يجعل التميز لدى وسائل الإعلام في وجود مادة تفسيرية أقرب إلى ذهن المتلقي، وأكثر قدرة على بناء القناعات، وقدرة كذلك على حشد الاتجاهات. كما أننا في سلطنة عُمان نعيش مرحلة تحول وطني تقودها جملة من السياسات والاتجاهات والمشروعات التي من شأنها تغيير أنماط الاقتصاد والمجتمع فإن هذه اللحظة هي لحظة إعلام الدولة في تقديرنا، تتجسد قدرته على التبيان، وخلق سردية واضحة لهذا التحول الوطني، ومادة أكثر مواكبة له، وتضع الفاعلين الاجتماعيين في ذات المركب في رحلة هذا التحول، وتستثمر فيما تحقق من إمكانات لمؤسسات إعلام الدولة في سبيل تسخيرها لكسب ثقة المجتمع والمواطنين. إن ما يبحث عنه المواطن اليوم هو رسالة إعلامية معتبرة، عبر وسيلة معتبرة، تمكنه من الفهم والتفاعل الجيد مع المشهد الوطني عمومًا، وخلق اتجاه ذاتي داعم ومساند للجهود الوطنية، وهذه الرسالة تستوجب على مؤسسة إعلام الدولة تركيزًا أكبر في صوغ محتواها، وابتكارًا وتنويعًا فيه، ووصولًا أوسع عبر مختلف المنصات إلى المجتمع للقدرة على التأثير فيه.

مبارك الحمداني مهتم بقضايا علم الاجتماع والتحولات المجتمعية فـي سلطنة عُمان