الأمن الأوروبي بعد قمة الناتو في مدريد

26 يونيو 2022
26 يونيو 2022

في نهاية شهر يونيو، أي بعد مرور خمسة وعشرين عامًا على آخر قمة استضافتها مدريد لحلف شمال الأطلسي (الناتو)، ستكون العاصمة الإسبانية مرة أخرى المشهد الذي تدور فيه أحداث فصل جديد من فصول الأمن الأوروبي، وسوف يكون لزامًا على أوروبا في الأغلب الأعم أن تلعب دور البطولة في الرواية في النهاية، يجب أن يساعد الأوروبيين على النهوض وتحمل مسؤولياتهم في ما يتصل بأمن القارة الأوروبية، هذه هي أفضل وأهم مساهمة يمكن أن تقدمها أوروبا لمستقبل الناتو.

يختلف السياق الجيوسياسي اليوم تمام الاختلاف عن الهيئة التي كان عليها قبل ربع قرن من الزمن في قمة مدريد عام 1997، وجه الناتو الدعوة إلى ثلاث دول سابقة في حلف وارسو ــ جمهورية التشيك، والمجر، وبولندا ــ للانضمام، بالإضافة إلى هذا، بعد التوقيع في ذلك العام على قانون الناتو التأسيسي الخاص بروسيا وما تلا ذلك من إنشاء مجلس الناتو- روسيا، كانت أوروبا تتطلع إلى مستقبل من التقارب غير المسبوق مع الكرملين، والآن بالطبع لم يتبق من ذلك التفاؤل سوى أقل القليل.

أثبت الناتو أنه لا غنى عنه لأمن أوروبا وأفضل ضمانة للأمن الوطني لعدد متنام من البلدان، كانت إحدى أهم العواقب المترتبة على الحرب في أوكرانيا تقدم فنلندا والسويد بطلب للانضمام إلى عضوية الناتو ــ إذ تتمتع هاتان الدولتان بكل المؤهلات التي تسمح لهما بالمساهمة إيجابيًا في الحلف، وبعد القرار الأخير الذي اتخذه المواطنون في الدنمرك بالانضمام إلى سياسة الاتحاد الأوروبي الدفاعية، أصبحت المؤسسات التي تشكل الأساس الذي يستند إليه الأمن الأوروبي متوافقة على نحو متزايد لعقود من الزمن، كان الانقسام الزائف بين أوروبيين وأطلسيين سببًا في احتدام جدال أمني عقيم وهَـدّام في أوروبا.

اليوم، لا يشك إلا قِـلة من المراقبين في أن الأوروبيين يجب أن يسهموا بشكل أكبر في الحلف والأمن الأوروبي، وأنهم يجب أن يعملوا على تطوير القدرة على القيادة في الأزمات الأمنية في المستقبل.

وعلى هذا فإن السؤال المطروح الآن هو كيف من الممكن أن تسهم أوروبا على أفضل وجه في مهمة الناتو، من المؤكد أن أوروبا القوية لا غنى عنها لتنشيط الرباط الأمني عبر الأطلسي، في أحد اجتماعاتي الأولى بصفتي ممثل الاتحاد الأوروبي الأعلى للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية، قدم رئيس أركان الدفاع البريطاني وصفًا لائقًا للاتجاه الذي ينبغي للعلاقة أن تتخذه، قال: «إن أوروبا التي تظل متحالفة مع الولايات المتحدة، بسبب ضعفها ببساطة، محدودة القيمة». إن تعزيز قوة العلاقة عبر ضفتي الأطلسي يعني ضمنا إدراك حقيقة مفادها أن مكونها الأوروبي تغير، حيث أظهرت الأحداث التي وقعت في الأشهر الأخيرة أن الاتحاد الأوروبي قادر على الاستجابة للتهديدات الأمنية بطريقة منسقة وقوية، ما كان لأحد قبل بضع سنوات فقط أن يتخيل إمكانية فرض عقوبات مكثفة وممتدة ضد روسيا، فضلًا عن التمويل المشترك لإمدادات الأسلحة إلى أوكرانيا، بل ومجرد فكرة الحد بشكل كبير من اعتماد أوروبا على الطاقة الروسية.

أَكَّـد الرد الأوروبي على غزو روسيا لأوكرانيا، بعد التدابير التي تبنتها القارة للتخفيف من العواقب الاقتصادية المترتبة على جائحة مرض فيروس كورونا 2019 (كوفيد-19)، أن أوروبا تصبح أقوى في أوقات الشدائد، صحيح أن الحرب التي يشنها الرئيس الروسي فلاديمير بوتن جعل من السهل على أوروبا أن تتوحد، لكن طموح قادتها جدير بالملاحظة؛ نظرًا لبعض التكاليف الاقتصادية التي ستخلفها هذه التدابير على أوروبا.

إن الأساس الذي يجب أن يستند إليه تعزيز تكامل الدفاع الأوروبي قائم بالفعل، وقد ساعد التقدم المحرز طوال السنوات العشرين الأخيرة في مجالات السياسة الأمنية والدفاعية المشتركة، والخبرة المكتسبة في مهام الاتحاد الأوروبي المدنية والعسكرية، وعمل وكالة الدفاع الأوروبية، وتبني البوصلة الاستراتيجية، في وضع أوروبا في موقف ملائم لمواجهة التحدي. تُـعَـد رغبة الجماهير الوطنية ومؤسسات الاتحاد الأوروبي في تمويل مشاريع مشتركة لتقوية قطاع الدفاع الأوروبي خطوة أولى أساسية.

ويمثل التحول الذي طرأ مؤخرًا على سياسة الحكومة الألمانية ــ التي ضاعفت إنفاقها الدفاعي تقريبًا في عام 2022، إلى 100 مليار يورو (107 مليار دولار أمريكي) ــ فرصة تاريخية لتمويل المشاريع مع شركاء أوروبيين آخرين. لم تكن ألمانيا وحدها في هذا، فقد دفعت الحرب في أوكرانيا دول الاتحاد الأوروبي إلى الإعلان عن زيادات غير مسبوقة في الإنفاق الدفاعي تبلغ في المجمل 200 مليار يورو على مدار السنوات الأربع المقبلة.

تتباين هذه التعهدات مع تباطؤ أوروبا في هذا المجال سابقًا، فعلى مدار عشرين عامًا، كانت الزيادة المئوية في الإنفاق الدفاعي المشترك من قِـبَـل بلدان الاتحاد الأوروبي أقل بثلاث مرات من مثيلتها في الولايات المتحدة، وأقل بنحو 15 مرة مقارنة بروسيا، وأقل بثلاثين مرة مقارنة بالصين، من حسن الحظ أن حجم الإنفاق العسكري أقل أهمية من كيفية إنفاقه.

يتعين علينا أن ننفق بشكل أفضل معا، وكأوروبيين. الواقع أن الإنفاق الدفاعي المشترك أكثر كفاءة من الجهود الوطنية المنفردة، وهو يساعد في تعزيز القاعدة الصناعية والتكنولوجية في أوروبا. يشير التزام المفوضية الأوروبية الأخير بتخصيص 500 مليون يورو لمشتريات الدفاع المشتركة إلى أن أوروبا تسير في الاتجاه الصحيح. تعتمد أوروبا حاليًا على الإنفاق خارج حدودها لنحو 60% من قدراتها العسكرية، ويجب أن يتجنب الإنفاق الدفاعي الأكبر والأفضل زيادة اعتماد أوروبا على صناعات الأسلحة في دول أخرى؛ لأن هذا من شأنه أن يقوض الجهود المبذولة لتحقيق قدر أكبر من الاستقلالية الاستراتيجية الأوروبية، ولكن في حين ينبغي لنا أن نشجع الاستثمار في صناعة دفاعية أوروبية بالكامل، فمن الأهمية بمكان أن لا يتسبب اقتراح رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين بإنشاء اتحاد دفاعي أوروبي في خلق تبعيات داخلية جديدة تعود بالفائدة على قِـلة من الصناعات الوطنية داخل أوروبا.

إن تطوير سياسة دفاعية مشتركة للاتحاد الأوروبي لا يستلزم تقسيم المسؤوليات في ما يتصل بالأمن الأوروبي، ولا يجب أن يحل محل الوظيفة الحيوية التي يضطلع بها الناتو. سوف تظل مسؤوليات المنظمات التي تشكل الأساس الذي يقوم عليه الرباط الأمني عبر الأطلسي على حالها.

ما يهم هو تحمل تلك المسؤوليات بكل ما أوتينا من قوة. قال المعلق الأميركي والتر ليبمان: إن التحالف أشبه بالسلسلة: فمن غير الممكن أن تكون قوية وبها حلقات ضعيفة في عشية قمة الناتو 2022 التي تستضيفها مدينة مدريد، هذه أفضل طريقة لوصف التحدي السياسي الذي يواجه العلاقة عبر ضفتي الأطلسي، لن يتسنى لنا تعزيز أمن قارتنا إلا من خلال إرادة الأوروبيين السياسية وعزيمة قادتهم.

خافيير سولانا الممثل الأعلى السابق للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية، والأمين العام لحلف شمال الأطلسي.