استراتيجية ترامب البالية تقودنا إلى حرب عالمية ثالثة
16 ديسمبر 2025
ترجمة: أحمد شافعي
16 ديسمبر 2025
لا أعرف ما الذي يدور في أذهان مصممي سياسة الرئيس ترامب الخارجية. يبدو لي كأنهم خصصوا كل وقتهم لدراسة كلاسيكيات كتب التاريخ في قضايا الحروب العالمية ـ من قبيل «الحرب التي أنهت السلام» لمارجريت مكميلان أو كتاب «أزمة السنوات العشرين» لإتش إتش كار ـ ثم قالوا لأنفسهم: هذه بالضبط هي الوجهة التي نريد أن نأخذ العالم إليها.
لقد أوضح الرئيس ترامب ـ سواء في ولايته الأولى أو الآن في أحد عشر شهرا من ولايته الثانية ـ أن الإجماع بين الحزبين في ما بعد الحرب الباردة، الذي أشرفت به الولايات المتحدة على نظام عالمي متكامل اقتصايا وخاضع لحكم قوانين مشتركة تنظم علاقات الملكية والتجارة والصراعات قد مضى زمنه وانتهى نفعه. ويعرض البيت الأبيض الآن بدلا منه رؤية للعالم منقسما إلى مجالات نفوذ متنافسة.
فقد أصدر البيت الأبيض في الشهر الحالي تقرير استراتيجية الأمن الوطني في سعي إلى تقنين هذا التحول. ويشمل التقرير جميع النقاط المرتبطة بقومية مؤسية هي قومية (أمريكا أولا) التي تنبذ العولمة والتجارة الحرة والمساعدة الخارجية وترفض بناء الدول وتدعو أعضاء الناتو إلى إنفاق حصص أكبر من ناتجهم المحلي الإجمالي على الإنفاق الدفاعي. وينبه التقرير إلى أن الولايات المتحدة لن تستمر «إلى الأبد في تحمل الأعباء العالمية» التي لا صلة مباشرة لها بـ«مصالحها الوطنية».
ويكمن لب التقرير في تعهد بـ«تجديد التأكيد والتفعيل لمبدأ مونرو بهدف استعادة تفوق أمريكا». وفي الماضي، كان العسكريون يستندون إلى مبدأ مونرو كثيرا بفعل العادة، على سبيل ترديد شعار مبتذل. أما هنا فإنه يلعب دورا أهم في تعريف ما قد يبدو عليه شكل النظام العالمي المستقبلي الموسوم بـ (أمريكا أولا).
لغير المطلعين أقول إن مبدأ مونرو ليس معاهدة أو قانونا، إنما ولد كلاما بسيطا قاله الرئيس جيمس مونرو سنة 1823 معترفا فيه باستقلال جمهوريات أمريكا الأسبانية ومنبها أوروبا إلى أن نصف العالم الغربي منطقة بعيدة عن أي «استعمار مستقبلي».
كان الرئيس جيمس كيه بولك في عام 1845 من أوائل من حولوا البيان إلى نص مكتوب، فاستند في سعيه إلى الاستيلاء على كاليفورنيا من المكسيك قبل البريطانيين إلى «عقيدة الرئيس مونرو».
وسوف يستشهد بولك مجددا بمونرو في ضمه لتكساس. ثم استعمل رؤساء بعده المبدأ باعتباره تصريحا مباشرا يسمح بسلسلة من الاحتلالات العسكرية والانقلابات المدعومة من الولايات المتحدة. وبحلول أواخر القرن التاسع عشر، باتت في أمريكا اللاتينية كلمة جديدة لوصف التدخل الأمريكي في شؤونها هي «المونروية - Monroísmo».
ويتفق مع المنطق أن تلتفت إدارة ترامب إلى ذلك الشعار الدبلوماسي الجديد في تحديد فلسفتها في الشئون الخارجية.
ففي الوقت الذي ينقسم فيه النظام العالمي إلى مجالات نفوذ متنافسة، تحتاج كل قوة إقليمية إلى السيطرة على أفنيتها الخلفية، فتفعل موسكو ذلك في الجمهوريات السوفيتية السابقة وفي أماكن أخرى، وتفعله بكين في بحر الصين الجنوبي وما وراءه، وتفعله الولايات المتحدة في أمريكا اللاتينية.
وقد قال وزير الخارجية ماركو روبيو أخيرا «إنكم لو ركزتم على أمريكا وأمريكا أولا، فعليكم البدء بنصف الكرة الأرضية الذي ننتمي إليه». وهذا ما تفعله إدارة ترامب، إذ أشرفت في الأشهر القليلة الماضية على نشاط محموم لم يقتصر على إعدام عناصر الزوارق السريعة المزعوم تورطها في تهريب المخدرات، بل امتد إلى التدخل في السياسات الداخلية للبرازيل والأرجنتين وهندوراس، وتوجيه تهديدات متفرقة لكولمبيا والمكسيك، وتخويف كوبا ونيكاراجوا، وزيادة النفوذ في قناة بنما، والاستيلاء على حاوية نفط مقابل ساحل فنزويلا. ويقوم البنتاجون أيضا بحشد عسكري في منطقة الكاريبي يكاد يكون غير مسبوق من حيث حجمه وتركيز قوته النارية، ويبدو أنه يهدف إلى تغيير النظام في فنزويلا.
طالما كان القوميون المؤمنون بشعار (أمريكا أولا) هم أشد المدافعين عن مبدأ مونرو. فبعد الحرب العالمية الأولى، استعمل القوميون المبدأ في مقاومة عصبة الأمم التي اقترحها الرئيس وودرو ويلسن. وحذر هنري كابوت لودج، الرئيس الجمهوري النافذ للجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ من أن الانضمام إلى العصبة سوف يؤدي إلى «اختفاء مبدأ مونرو» ومعه السيادة الوطنية. وقال لودج ـ الموصوف بأنه مؤمن بـ (أمريكا أولا) إنه يرفض أداء قسم الولاء لعلم العصبة «الهجيني».
تقدم أعضاء في مجلس الشيوخ بقرار يضمن ألا يكون في تفويض عصبة الأمم أي شيء يمنع الولايات المتحدة عن استعمال القوة العسكرية في أمريكا اللاتينية وأن يبقى مبدأ مونرو «خارجا تماما عن اختصاص العصبة المعنية».
منحنيا أمام الضغوط، حاول ويلسن تحييد المعارضة بإدراجه بندا في ميثاق العصبة يؤكد «صلاحية... مبدأ مونرو»، ولم يجدِ ذلك في شيء إذ صوت مجلس الشيوخ ضد الانضمام.
في هذه المرحلة، فقدت الولايات المتحدة حقها الحصري في استخدام العبارة. وبعد أن قام جيش اليابان الإمبراطوري بغزو منشوريا سنة 1931، أعلنت طوكيو مبدأ مونرو الخاص بها. واستندت بريطانيا إلى «مبدأ مونرو بريطاني» لتبرير وجود إمبراطوريتها المستمر. وردَّ أدولف هتلر على طلب روزفلت بأن يحترم سيادة جيران ألمانيا بأن أشار لرئيس الولايات المتحدة إلى مبدأ مونرو الخاص ببلده: «إنا لدينا معشر الألمان العقيدة نفسها بشأن أوروبا، أو على الأقل بشأن المنطقة ومصالح الرايخ الألماني الأكبر».
ومع مضي العالم إلى الحرب العالمية الثانية، استند كثير من المتحاربين إلى مبدأ مونرو.
ويأتي تجديد الرئيس ترامب لمبدأ مونرو في لحظة تبلغ القدر نفسه من الخطورة في السياسة العالمية. فاستراتيجية الأمن الوطني لديه تشير إلى أمريكا اللاتينية لا بوصفها جزءا من مجتمع أمم العالم الجديد ـ مثلما فعل مونرو في كلامه سنة 1823 ـ وإنما بوصفها مسرحا لتنافس عالمي، ومكانا لاستخراج الموارد، وضمانا لسلاسل السلع، وبناء حصون للأمن القومي، وخوض حرب المخدرات، والحد من النفوذ الصيني، وإنهاء الهجرة.
ويصر تقرير استراتيجية الأمن الوطني على أن «الولايات المتحدة لا بد أن تبرز في نصف العالم الغربي، وذلك هو الشرط لتحقق أمننا الوطني ورخائنا» وللقدرة على التصرف «حيثما ووقتما» يلزم أن نضمن مصالح الولايات المتحدة. والنتيجة الطبيعية للرئيس ترامب من مبدأ مونرو تعني ببساطة إغلاق أمريكا اللاتينية والإغلاق دون أهل أمريكا اللاتينية.
ليست لدى واشنطن نية للانسحاب من موقع تفوقها العالمي. وبدلا من النظام الدولي الليبرالي البائد الآن، يعولم البيت الأبيض ضمنيا مبدأ مونرو، زاعما أن للولايات المتحدة الحق في الرد الأحادي على ما تراه من تهديدات لا داخل نصفها من الكرة الأرضية وإنما في أي مكان على كوكب الأرض (باستثناء الصين).
وليس هذا بالزعم الجديد، فقد كان هو حجر الزاوية في الحرب العالمية على الإرهاب، لكن الإصرار عليه دون محاسبة، ودون سلطة قضائية خارجية، وبلا أي التزامات أو تبعات متعددة الأطراف، معناه أن الولايات المتحدة تعتزم التعامل مع بقية العالم مثلما تتعامل مع أمريكا اللاتينية، فتصادر، وتعاقب، وتقتل، آمنة من العقاب.
في عام 1919، أعرب دبلوماسي بوليفي يدعى إسماعيل مونتيس عن أسفه من أن المعاهدة التي أنهت الحرب العالمية الأولى، بإقرارها لنسخة متشددة من مبدأ مونرو، حتَّمت الصراع في المستقبل. وقال إن «السلام لم يتحقق بعد، وإن المرء بوسعه أن يري بذور حرب جديدة».
واليوم تنثر إدارة ترامب البذور نفسها. فمثال العالم لديها هو أن يتحلق حول توازن قوى متعدد الجبهات، فيه الولايات المتحدة تدفع الصين، وتدفع روسيا، وتزرع الانقسام في أوروبا، وتهدد أمريكا اللاتينية، وتسعى جميع البلاد في كل مكان إلى مزايا، فمعنى هذه الرؤية أنه على أرجح الاحتمالات سوف تقع مواجهات، وتهورات، ومزيد من الحرب. وكما قال مارك روته الأمين العام لحلف الناتو أخيرا «علينا أن نكون مستعدين لحرب من النطاق الذي عانى منه آباؤنا وأجدادنا».
