إعادة بناء نهج الاستدامة اجتماعيًا

25 ديسمبر 2021
25 ديسمبر 2021

حظيتُ في الأيامِ الماضيةِ بزيارتين إلى معرض "إكسبو دبي 2020" الحدث الأبرز عالميًا هذه الأشهر، كانت الزيارة الأولى مشاركة في جلسة مستديرة نظمتها UN Global Compact حول أدوار الشباب في المنطقة في تسريعِ تحقيق أهداف التنمية المستدامة 2030 وكانت الزيارة الثانية زيارة حرة لمطالعة بعض أجنحة الدول المشاركة. وتزامنت مع قراءتي للتقرير الصادر مؤخرًا عن البنك الدولي بعنوان "الثروة المتغيرة للأمم 2021" والذي يستعرض بيانات وتحليلات للوضع التنموي الذي وصلت إليه أقاليم وبلدان العالم في أربعة محاور أساسية تشكل ما يسمى "ثروة الأمم" وهي: "رأس المال المُنتج - رأس المال الطبيعي - رأس المال البشري - صافي الأصول الأجنبية". وكنت أثناء التنقل في أجنحة الدول أحاول فهم الطريقة التي ستجيب بها مضامين تلك الأركان على الهواجس التي طرحها التقرير سواء بصورة مباشرة أو بصورة ضمنية. حيث يرى التقرير أن التنمية الاقتصادية في القرن الحادي والعشرين أمام مفترق طرق يحوزه الاشتباك بين مجموعة من التحديات المتضافرة وهي بحسب التقرير: "تغير المناخ وفقدان النظم الإيكولوجية والغابات والتنوع البيولوجي وتدهور المحيطات والأراضي الزراعية والأشكال المختلفة من التلوث" التي تنتج ثلاثة أشكال من المخاطر -بحسب التقرير- وهي:

- تهديدات الرفاهية المادية للمجتمعات.

- مخاطر الأنظمة اللاخطية nonlinearities

- المخاطر المالية التي تتعرض لها محافظ الأصول بصورة نادرة (مخاطر الذيل fat tail)

تتمحور مضامين أجنحة الدول المشاركة في إكسبو 2020 في تقديري على ثلاثة محاور أساسية أولها: الطريقة التي تنظر بها الدول إلى أصل وجودها والرابط الهوياتي والثقافي والطبيعي الذي تمحورت حوله نشأتها وكيف يساهم ذلك في تشكيل مجتمعاتها الفرعية من الداخل وربطها برباط الهوية ومن ناحية أخرى كيف يساعدها على الشروع في الاتصال والتواصل الحضاري مع الآخر ومن أمثلة ذلك الثيمة التي أعتمدها جناح السلطنة في أيقونة العرض (اللبان) وكيف يشكل مركزية التواصل والبناء الحضاري. أما المحور الثاني الذي يمكن أن تلامسه فهو الطريقة التي تنظر فيها الدول إلى حاضرها وكيف تفكر في هذا الحاضر الذي يحوزه عديد المتغيرات والتحولات وكيف ترى نفسها على خارطة التأثير الدول سواء كان بمنتجاتها أو قوى تأثيرها الناعمة أو الصلبة أو بمحورية الدور الذي تلعبه في حركة الصناعة والتجارة والاقتصاد العالمي والتأثير على الحالة الحضارية الراهنة للأمم. أما المحور الثالث والذي تركز عليه الأجنحة فهو يسترعي الزائر إلى استدراك الدول لمخاطر وفرص المستقبل وفي تقديري فإن هذا المحور هو الذي نستطيع أن نلمس من خلاله طبيعة نظرة الدول إلى مستقبل ثرواتها/ مستقبل تأثيرها/ مستقبل استدامة مجتمعاتها وتتباين الدول هنا في قدرتها على الربط بين الثلاثة محاور بطرق مبتكرة وذكية وبين تفكيرها في المستقبل بصورة مجردة عن المتصل التاريخي والحضاري والهوياتي وما يمكن للمجتمع أن يصنعه لمستقبل الدولة وكيف يمكن إدماج فكرة الاستدامة بطريقة توازن (الاقتصاد – البيئة – الرفاه المجتمعي).

تقدم بعض أجنحة الدول على سبيل المثال تصورًا ملهمًا لزوارها عن الطريقة التي تفكر فيها الدول في مسألة بدائل الطاقة. مع عرض تفصيلي لمشاريعها العملاقة في هذا المجال. فيما تركز بلدان أخرى على الطريقة التي يمكن من خلالها تسخير مبادئ (التقانة – الاستدامة) وربطها في مختلف سياسات إدارة الدولة والاقتصاد والمجتمع بما فيها بلورة نظام تعليمي يحقق الرفاه والسعادة وأنظمة صحة رقمية مستدامة بالإضافة إلى نظم حماية اجتماعية مزدهرة. في أجنحة معينة تجد نفسك بين طبيعة محاكاة تعرض من خلالها الدولة دور البيئة والتكوين التضاريسي في تأطير حياة الشعب والعمليات الاجتماعية المتمحورة حول البيئة الطبيعية وكيف يمكن إيجاد متصل تاريخي وحضاري بين ما ساهمت به هذه البيئة من خلق أنماط الحياة وبين استدامتها للمستقبل، والقائمة تطول من الأمثلة على الأركان التي تجسد إجابات مبتكرة على أسئلة "الثروة المتغيرة للأمم".

ينبه تقرير الثروة المتغيرة للأمم 2021 إلى أن سوء إدارة الموارد الطبيعية قد يؤدي إلى نمو اقتصادي قصير الأجل لكن ذلك بالتأكيد يهدد رخاء المستقبل حيث لا تزال نسبة الأراضي المزروعة 41% من مساحة الأرض، فيما يؤدي ضعف إدارة قطاع الثروة السمكية العالمية إلى التراجع المستمر في كميات الصيد على مستوى العالم حيث انخفض رأس المال الطبيعي الأزرق بمقدار النصف بين عامي 1995 وعام 2018 ولا تزال الموارد الطبيعية المتجددة تمثل 23% من إجمالي الثروة في البلدان المنخفضة الدخل وفي المقابل يكشف عن أن جائحة صحية كجائحة كورونا (كوفيد 19) ساهمت تكبد خسائر مقدرة بنحو 14% من رأس المال البشري. كما ينبه إلى الأهمية القصوى التي تفرضها ضرورة تنويع محافظ الأصل وإعادة توازنها لجعل التنمية الاقتصادية قادرة على الصمود والاستثمار في الثروة المستدامة.

من خلال معاينة ما جاء به التقرير والمشاهدات المتنوعة لأجنحة المعرض نرى أن هناك ثلاث رهانات للتحول المنتظر لدول العالم علينا أن نفكر فيها جيدًا ونقرأها من خلال التجارب والممارسات الفضلى:

- الأول: كيف يمكن جعل فكرة الاستدامة (نهجًا اجتماعيًا) من خلال إعادة تشكيل السلوك الاجتماعي وفق مبادئ الاستدامة في الممارسات اليومية المعيشة للأفراد والجماعات الاجتماعية من خلال تصميم نظم تعليم وصحة وجودة حياة وحماية اجتماعية مستجيبة وحافزة لهذه الممارسات. وهذا رهان اللحظة الحاسم في تقديرنا.

- الثاني: كيف ننظر إلى الاستدامة بوصفها امتداد للهوية الحضارية للدولة. يتأتى ذلك من خلال التركيز على حفز الموارد الثقافية وغير المادية للمساهمة في بناء حركة الاقتصاد والتنمية وتحقيق القيمة المضافة وحفز رأس المال البشري بطاقته وأفكاره المتجددة للاستثمار في هذه الموارد اتساقًا بالسمة الوطنية للبلدان.

- الثالث: كيف يمكن جعل رحلة المستقبل أكثر استجابة لحاجيات النمو الاجتماعي. من خلال الاستثمار الأمثل في تشغيل قوة العمل وحفز ريادة الأعمال الاجتماعية وتحقيق متطلبات القيمة المحلية المضافة للمشروعات الإنمائية الكبرى وربط العوائد التنمية بازدهار المناطق خارج المركز وتنويع صورة النموذج التنموي بعيدًا عن الصورة المركزية.

* كاتب عماني مهتم بقضايا علم الاجتماع