أوكرانيا وأساسيات الأمن الأوروبي

26 يناير 2022
26 يناير 2022

تتمتع أوروبا بإطار أمني لا مثيل له؛ وهو يتجسد في شبكة معقدة من المعاهدات، والقواعد، والمؤسسات. وعلى الرغم من طابعه المعقد، إلا أن نظام الأمن الأوروبي ليس في صيغته النهائية، بل يخضع للمراجعة باستمرار.

إن الترتيبات الأمنية في أوروبا وُضعت تدريجيا على مدى عقود عديدة؛ ووُضعت أسُسُه في مؤتمر (يالطا) عام 1945، حيث أعاد الرئيس الأمريكي، آنذاك، فرانكلين دي روزفلت، ورئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل، والزعيم السوفيتي جوزيف ستالين، تنظيم أوروبا من خلال تقسيم المنطقة إلى مناطق نفوذ، واضعين بذلك الموقف الأمني لأوروبا على أساس أكثر استقرارًا وقابلية للتنبؤ. وبعد مرور ثلاثة عقود، أي في عام 1975، ساعدت قمة (هلسنكي) لمؤتمر الأمن والتعاون في أوروبا على تخفيف توترات الحرب الباردة. وفي تسعينيات القرن العشرين، تم إضفاء الطابع المؤسسي على المؤتمر بوصفه منظمة الأمن والتعاون في أوروبا. وعلى الرغم من هذه الاتفاقيات الحيوية، ضرب سقوط الاتحاد السوفيتي أوروبا في الصميم. وكان الزعيم السوفيتي الأخير، ميخائيل غورباتشوف، على دراية بالتغييرات التي ستواجهها روسيا في العقود اللاحقة.

إذ أعلن في الخطاب الذي أدى إلى تفكك الاتحاد السوفيتي رسميًا في 25 ديسمبر 1991 قائلا: "إننا نعيش في عالم جديد". وفي الفترة ما بين عامي 1989 و1991، فقد الكرملين السيطرة على مساحة أكبر من الاتحاد الأوروبي. وفي "العالم الجديد" الذي أشار إليه غورباتشوف، احتل جزء من هذه الأرض المفقودة موقعًا فريدًا في قلوب القادة الروس وعقولهم؛ وهذا الجزء هو أوكرانيا. إذ غالبا ما كان يفغيني بريماكوف يردد جملة "أوكرانيا في قلبي"، أثناء مفاوضات أجريتها معه بشأن الاتفاقية التي مكنت من التوسع الأول للحلف بعد نهاية الحرب الباردة. وكان يفغيني بريماكوف آنذاك وزير خارجية روسيا بينما كنت أشغل منصب الأمين العام لحلف الناتو. وتم التوقيع على القانون التأسيسي للعلاقات المتبادلة بين الحلف وروسيا في مايو 1997. وخلال قمة الناتو التي عُقدت في مدريد بعد ما يقرب من ستة أسابيع، وُجِّهت دعوة الانضمام إلى المجر، وبولندا، وجمهورية التشيك. وبالنسبة لأوكرانيا، فقد وقعت على ميثاق الشراكة المميزة مع الناتو. ولم تنضم إلى الحلف، لكنها أصبحت محاورًا متميزًا مع الغرب.

وعلى أي حال، تعتبر أوكرانيا أيضًا عنصرا حيويا لأمن أوروبا. إذ خلال هجمات 11 سبتمبر 2001 الإرهابية على الولايات المتحدة، كنت في شبه جزيرة القرم لعقد قمة للاتحاد الأوروبي مع الرئيس الأوكراني آنذاك ليونيد كوتشما. ونظرا لتلك الأنباء المأساوية، أصبح العالم متضامنًا مع أمريكا، لكن أوكرانيا ظلت على رأس جدول الأعمال الأمني الأوروبي.

وظهرت تهديدات جديدة في بداية القرن الحادي والعشرين، ومع مرور الوقت، أصبحت روسيا غير مرتاحة بصورة متزايدة لنظام ما بعد الحرب الباردة، بقيادة الولايات المتحدة المهيمنة. وكما صرح الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في مؤتمر ميونيخ للأمن لعام 2007، فإن "النموذج أحادي القطب ليس فقط غير مقبول، بل مستحيل أيضا في عالم اليوم". وكانت إعادة الترتيب في مرحلة ما بعد المجال السوفياتي تعرقل بصورة خاصة السياسة الخارجية الروسية، التي لديها مفهوم إقليمي للسلطة.

إن التقليص التدريجي للمنطقة العازلة الإقليمية لروسيا- التي شكلتها الدول التي مارست عليها روسيا نفوذًا قويًا أو سيطرة تامة - ترك الكرملين يشعر بأنه محاصر. وفي ظل هذه الخلفية، فإن احتمال خسارة أوكرانيا لا يقبله بدرجة أكبر النظام العالمي أحادي القطب - وهو ما يفسر نشر روسيا المكثف للقوات على طول الحدود بينها وبين البلدان الأخرى.

ولا يبدو أن روسيا مستعدة لمحاولة ضم أوكرانيا بكاملها. ومع ذلك، من الواضح أن الكرملين ملتزم بإبقاء أوكرانيا ضمن دائرة نفوذه. إن أحد المكونات الأساسية للنظام الأمني الأوروبي هو مبادؤه التأسيسية، ومن الواضح أن ضم روسيا غير القانوني لشبه جزيرة القرم في عام 2014 انتهك هذه المبادئ- خاصة، احترام وحدة أراضي الدول. ولسوء الحظ، فإن الوضع المتوتر الحالي على طول الحدود الأوكرانية يعرض الاستقرار في أوكرانيا، ومن ثم، الأمن في أوروبا، للخطر. ومن الواضح أن الجهود المبذولة للتوصل إلى حل دبلوماسي للأزمة لها طابع ملح، وقد كُثفت هذه الجهود خلال الأسابيع القليلة الماضية. ولكن رغم أن روسيا تشارك في محادثات أمنية مع كل من الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي، وتشارك في اجتماعات في إطار منظمة الأمن والتعاون في أوروبا، إلا أن المفاوضات وصلت إلى طريق مسدود. ويجب أن يدعم الاتحاد الأوروبي الجهود الأخرى المبذولة للتوصل إلى حل دبلوماسي للأزمة الحالية، مثل ما يسمى بصيغة (نورماندي)، وهي مجموعة اتصال غير رسمية تضم فرنسا، وألمانيا، وروسيا، وأوكرانيا، وأنشئت في عام 2014 لحل الأزمة في منطقة دونباس الشرقية لأوكرانيا. ولكن حتى وإن كانت هذه هذه العملية تسير قُدما، يجب أن يضمن الاتحاد الأوروبي أن صوته مسموع، وأن يمثَّل بصورة كافية في هذه المفاوضات. وأشار الممثل الأعلى للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية في الاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، بحق، إلى أن الاتحاد "لا يمكن أن يكون متفرجًا محايدًا" في المحادثات المتعلقة بالقضايا التي تؤثر بصورة مباشرة على الأمن الأوروبي. ونظرًا لالتزام الرئيس الأمريكي جو بايدن المعلن بمبدأ "لا يجري شيء يخصك، بدونك"، يبدو أن مشاعر (بوريل) تتقاسمها جميع بلدان المحيط الأطلسي. وما يتجاوز المبادئ هي اعتبارات عملية. إذ تغير الاتحاد الأوروبي بصورة عميقة منذ بناء الهيكل الأمني الأوروبي بعد الحرب الباردة. وقد توسع من 12 عضوًا إلى 27 عضوًا، ليصبح أكبر كتلة تجارية في العالم. ومع السياسة الخارجية والأمنية الأوروبية المشتركة، فقد جمع كل أدوات السياسة الخارجية الفعالة، وكل ما يحتاجه الآن هو تطبيقها. وقال جورباتشوف في نهاية الحرب الباردة إن العالم قد تغير. لقد تغيرت أوروبا أيضًا، وحتى تحافظ على التزامها بالسلام، سيتعين على الهيكل الأمني الأوروبي أن يعكس هذا الواقع الجديد.

• خافيير سولانا الممثل الأعلى السابق للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية، والأمين العام لحلف شمال الأطلسي