أبحاث المستهلك وفاعلية السياسة العامة

12 نوفمبر 2022
12 نوفمبر 2022

إلى جانب الأهمية القصوى للسياسات المالية والنقدية في الأوقات الحرجة على المستهلكين كأوقات "التضخم"، تبرز أهمية ما نسميه في العلوم الاجتماعية بـ "إعادة هندسة السلوك الاستهلاكي Reengineering consumer behavior" كأحد أهم التدخلات التي يمكن من خلالها للمجتمعات أن تتكيف (جزئيًا) في هذه الأوقات. يبقى هذا العنصر محكومًا بالنسبة للمجتمع بما نسميه "التكيف الاجتماعي social adaptation" والتكيف الاجتماعي في أزمنة المخاطر الاجتماعية بما فيها "التضخم" يبقى مرهونًا بعدة عوامل تتحكم في فاعليته ومن أهمها: التجربة – الثقافة – مستويات الوعي – البدائل المتاحة – القبول – مستويات التماسك الاجتماعي – مدى تأثير الجماعة الاجتماعية – وبالتأكيد مستويات الدخل والمعيشة. وكل هذه العوامل تنعكس بشكل أو بآخر على إقدام الأفراد في المجتمعات على إعادة هندسة سلوكهم الاستهلاكي في أوقات التضخم وارتفاع الأسعار كما تتحكم في الطريقة التي يعبرون من خلالها عن هذه المرحلة.

تدفع الكثير من الحكومات حول العالم الأفراد عبر مؤسساتها الاقتصادية والإعلامية وعبر خطابها العمومي إلى خيار "ترشيد وتحسين القرار الاستهلاكي". وتتفاوت الاستجابات وفقًا لتحكم عدد من العوامل المتصلة بالمجتمع نفسه والمتصلة بفاعلية الرسالة والمتصلة بطبيعة السياسة العامة لمواجهة موجات التضخم. إلا أن نجاعة الرسالة الموجهة للأفراد تقتضي (المعرفة بالمؤثرات المتحكمة في سلوكهم الاستهلاكي) ولنطرح أسئلة ملحة وحاسمة في هذا الشأن:

- ما العوامل الاجتماعية والنفسية والاقتصادية الأكثر حسمًا في صياغة قرارات الاستهلاك لدى الأفراد؟

- كيف تبدلت طبيعة الاستهلاك لمنتجات بعينها (عبر الزمن – عبر المجموعات الاجتماعية – عبر الفئات العمرية – عبر العوامل الاقتصادية)؟

- إلى أي مدى يدرك الأفراد تأثير السياسات الموجهة لحمايتهم (كمستهلكين) ودورها في إعادة هندسة سلوكهم الاستهلاكي؟

- هل تبدل هرم دوافع الاستهلاك عبر فترات زمنية محددة وما العوامل الأكثر حسمًا في تحريك الهرم؟

- ما الفئات الأكثر حساسية من ناحية (الدخل / الوضع الاقتصادي) تجاه أية تغيرات تطرأ في الأسعار والأسواق؟

هذه نماذج لأسئلة رئيسية تتحكم في الطريقة التي يمكن من خلالها أن تكون الرسالة الموجهة للأفراد في أي مجتمع لإعادة ضبط وهندسة سلوكهم الاستهلاكي فعالة من عدمها. الرهان هو في الكيفية التي تولد من خلالها الحكومات الإجابات الدقيقة والحاسمة على هذه الأسئلة عبر الرصد والتتبع المستمر لتغيرات اتجاهات وسلوك المستهلكين، وهو ما يعني أن وجود حقل متكامل لـ "أبحاث المستهلكين" لم يعد مجرد حاجة ملحة للفاعلين داخل السوق من الشركات والعلامات التجارية والتجار والمستثمرين ورواد الأعمال ، وإنما أصبح ضرورة قصوى للحكومات ويتلامس في الآن ذاته مع منظومات السياسة العامة الموجهة للمستهلكين سواء تلك التي تنشط في أوقات التضخم مما يتطلب التوجيه لترشيد سلوك الاستهلاك أو حتى السياسات المستقرة المتصلة بحماية المستهلكين أو بتوعيتهم في مواجهة عوارض السوق كالغش التجاري والإعلانات المضللة. أو حملات تغيير السلوك المجتمعي بما فيها تلك الحملات الدافعة نحو تخفيف الاستهلاك التفاخري أو الاستهلاك المبني على المقارنة الاجتماعية social comparison.

في السياق الوطني الحاجة أصبحت ملحة اليوم إلى مراكمة حقل لأبحاث المستهلكين سيسهم في تقديرنا من تمكين المؤسسات المعنية بتوعية وحماية وتوجيه المستهلك في معرفة الكيفية التي يمكن الانتقال من خلالها إلى رسائل ووسائل وسياسات أكثر فاعلية وملامسة حسب الفئات العمرية والثقافية وبمراعاة الأبعاد الاقتصادية والمكانية. في منشور لمجموعة "سيجاب" التابعة للبنك الدولي حول: "دمج أبحاث المستهلكين في صناعة السياسات الخاصة بحمايتهم" يؤكد المنشور أن إدماج هذه الأبحاث يساعد في "فهم الطرق التي من خلالها تؤثر تحيزات محددة وجوهرية لدى المستهلكين في فاعلية الإجراءات التدخلية المختلفة بشأن السياسات لتحسين التثقيف المالي أو توجيه المستهلكين إلى ما يعتبره واضعو السياسات منتجات أكثر ملاءمة أو مناسبة بقدر أكبر". صحيح أن هناك اليوم تقارير تصدر بشكل دوري عن مؤشر أسعار المستهلك وتغيراته على مستوى مجموعات الاستهلاك والمحافظات ولكن حقل أبحاث المستهلكين أوسع من ذلك بحيث يمكن من فهم التغير عبر الزمن في سلوك المستهلك نفسه ودوافع ومحركات واتجاهات ومؤثرات ذلك السلوك والأهم من ذلك يكشف كيف يتكيف الأفراد (المستهلكين) في المجتمعات مع التغيرات التي تطرأ وهل البدائل الاستهلاكية المتاحة ملائمة وفعالة أم أن المجال يجب أن يتعدى الحماية إلى إيجاد البدائل وتوسيع نطاقاتها. وهذا الأمر لا يتعلق بالحكومات وحدها وإنما ستساعد مثل هذه الأبحاث والتقارير حتى رواد الأعمال والفاعلين في السوق في بناء اتجاهات أكثر ملاءمة للسوق في المنتجات والتسويق والتواكب مع الأسواق. ولكن ما يعنينا هنا هو فاعلية السياسات العامة في هذا السياق.

وإلى جانب ذلك ثمة مؤثرات خارجة عن السوق نفسه من المهم رصد تأثيراتها وانعكاساتها وهي تلك التي تتيحها ثورة البيانات والمعلومات وتخصيص التجربة. تشير دراسة بعنوان: " The past, present, and future of consumer research" إلى الدور الحاسم للبيانات الضخمة واستخدامها لتخصيص تجربة التسوق وتخصيصها باستخدام التعلم الآلي والذكاء الاصطناعي حيث يمكن للمسوقين توقع مواقف المستهلكين ، وبالتالي ، التوصية بالمنتجات بناءً على التفضيلات الفردية". وعلاوة عليها يمكن أن خوازميات التواصل الاجتماعي ودورها في خلق اتجاهات استهلاكية جديدىة عوضًا عن الحديث الجديد القديم والمتصل بتأثير المعلنين الجدد على التجارب والسلوك الاستهلاكي. في تقديري نقف اليوم أمام ثلاث عناصر متشابكة فيما يتعلق بسلوك الاستهلاك:

1- تجربة تخصيص تستفيد من ثورة البيانات قادرة على الفهم/ التوجه لمستهلك بعينه وتتبع خياراته.

2- تحيزات معرفية وإدراكية تنشئها البيئة المحيطة تتحكم في خيارات الاستهلاك.

3- تغيرات في الدوافع الاستهلاكية تجعل من رسالة "إعادة هندسة السلوك الاستهلاكي" أمام تحدي التخصيص والفاعلية.

وأمام هذه العناصر لا ترتبط المسألة بأبحاث جزئية أو تقارير متباعدة المدى الزمنية وإنما الرهان في خلق حقل متكامل العناصر من البيانات والمعلومات والرؤى الراصد لتغيرات سلوك المستهلكين. حيث يتقدم هذا المجال من الناحية المنهجية أيضًا ليشمل المقابلات البؤرية المركزية ويشمل المهاتفات إضافة للاستطلاعات العامة عوضًا عن التجارب المركزة والمباشرة على مجموعات استهلاكية بعينها. كل هذه التطورات تتيح فرصة لاستثمارها في حقل أبحاث مؤسسي ومتكامل يدفع برسالة تواصلية فاعلة مع المستهلكين تنعكس على فاعلية السياسات العامة.