«وهين بيسيرن العاملات في إجازتهن؟»
19 أكتوبر 2025
19 أكتوبر 2025
«وهين بيسيرن العاملات في إجازتهن؟»، هكذا قالت المرأة العجوز جملتها الساخرة وهي ترتشف فنجان قهوتها في يوم المرأة العُمانية، عندما دار الحديث حول الحقوق التي كفلتها اللائحة التنظيمية الأخيرة لعُمّال المنازل ومن في حكمهم. قد تبدو الجملة ثقيلة الوقع ولا إنسانية، ولكن أليس الأجدر بنا أن نضع المسائل ضمن سياقها، لاسيّما في قُرى عُمان البعيدة والصغيرة التي يختلف نمط العيش فيها عن حيوية المدينة وخياراتها؟
المثير للانتباه حقًا تلك اللغة الواثقة من قِبَل وزارة العمل لوسائل الإعلام عن أثر «المكافأة» على العُمال، وهو أمرٌ لا يمكن لأحدنا أن يُنكره البتّة، ولكن عندما لا يحصل ربّ العمل على «مكافأة» سنوية -لأنّه غالبًا خارج ملفات إجادة- فكيف له أن يمنحها لغيره؟
لا جدال في وجوب أن ينال العُمّال حقوقهم كاملة غير منقوصة، غير أنّنا ندرك في الوقت نفسه أنّهم جاؤوا من بيئات وثقافات ورؤى اجتماعية مُغايرة. ثقافات تتيحُ للعاملة مثلًا أن يكون لها أصدقاء، أو أن تتناول أطعمة ومشروبات تختلف عمّا ألفناه، وأن تلبس على طريقتها ــ وهو حقٌّ أصيلٌ لها ــ غير أنّ العيش المشترك تحت سقفٍ واحد يجعلها جزءًا من نسيج العائلة، وهو ما يدفع البعض إلى فرض أنماطٍ من السلوك تُرى من الخارج وكأنّها صادرة من منابت التشدّد والتعصّب، بينما هي غالبًا نتاجُ الخوف المُستعر تجاه «الصورة» العامّة التي نبدو عليها.
عديد الأسر الصغيرة التي تقطن الشقق، تضطر عند قدوم طفلها الأول إلى تبديل مسكنها للحصول على غرفة إضافية للعاملة، ثمّ تُفاجأ بوجود كائن غريب يُشاركها؛ وعين تتلصّصُ على تفاصيلها، وأذن تُصغي لخفايا الأمور، وجسد يتحرّك ليخدش شيئًا ما. وبالمقابل لا يخفى على أحدنا أنّ بعض الأسر ترتكب أخطاءً جسيمة بحقّ العاملات، كأن تتفاجأ إحداهن بغير ما وُعِدت به، فتجد نفسها مضطرّة للقيام بأعمال المزرعة أو الحيوانات مثلًا، أو للعمل في أكثر من بيتٍ واحد، وضمن ظروف شاقّة وغير إنسانية.
إنّنا أمام موضوعين متضادّين ومتشابكين في آنٍ واحد: الحرية المكفولة للعاملة، وحُرمة بيوتنا. لكن ماذا لو انشغلنا بتفكيك فكرة «الكفالة»، تلك العلاقة المعقّدة والمقيّدة للعامل من جهة، وللكفيل الذي يلهثُ وراء تجديد الإقامة، ودفع الرسوم والتأمينات وتذاكر السفر من جهةٍ أخرى؟ الأمر الذي يُرينا أحيانًا نموذجًا بشعًا من «الكفلاء» الذين يُصادرون جوازات السفر، أو يحجزون الأجور، أو يفرضون ساعات عملٍ طويلة.
لعلّنا لسنا بحاجةٍ إلى كلّ هذه اللوائح التنظيمية بقدر حاجتنا إلى شركاتٍ منظِّمة؛ تعملُ بنظام العقود، وتضمن حقوق العُمال، وتُراقب التزامات أصحاب المصلحة، وتحدّ من التبعية المقيتة، فتتحمل التكاليف والنفقات والتأمينات الصحية وإجراءات النقل والسفر والمكافآت. فلا تكون الأسرة مسؤولة إلا عن تقييم مستوى الخدمة وسداد ثمنها، وليس لها أيّ سلطة على شكل حياة العاملة أو مظهرها أو ثقافتها أو أوقات رفاهيتها. ولن يتحقّق ذلك إلا بواسطة شركاتٍ تتنافسُ فيما بينها لتقليل أثر النزاعات القانونية والاجتماعية. وفي حال إخفاق طرفٍ من أطراف المعادلة، يُعاقب المُسيء بحسب القوانين والحُجج الدامغة.
«إمكانية فسخ التعاقد بإخطار أحد الطرفين قبل شهرين» -هذه الجملة قد تُعطي شكلًا رصينًا من الضمانات، لكن إذا كان الكفيل مُجبرًا على هذا لا بطل، فمن يستطيع أن يُجبر العُمال إن كانوا لا يملكون المال أصلًا، فرواتبهم تُرسل شهريًا إلى عوائلهم! وعندما يهربون يضع ربّ العمل -فوق خسارته- تذكرة السفر جاهزة، بينما تقول الوزارة: «لماذا لا تقومون بتقديم بلاغٍ رسمي للمطالبة بالمستحقات المالية المُترتّبة عليهم؟!»
هذه الظاهرة الحديثة -التي يلزمها الفحص- لم تأتِ إلا مع مجيء النفط، ولم يعد الفكاك منها ممكنًا بسبب التوغل الجارف الذي أصاب عصب المجتمعات الخليجية عمومًا، حتى صرنا أمام أجيالٍ تعتمدُ في كلّ صغيرة وكبيرة على العاملات، إلى حد أصبح معه مشهد أسرة واحدة قادرة على العيش دون عاملة أمرًا يثير الدهشة!
والسؤال: أعلينا أن نُطيل النظر في مرايا حقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية العالمية؟ أم أن علينا أولًا التفرس في خدوشنا وألمنا الاجتماعي الاقتصادي الخفي؟
هدى حمد كاتبة عُمانية ومديرة تحرير مجلة «نزوى»
