وجه آخر لأم كلثوم

10 فبراير 2024
10 فبراير 2024

يعلم محبو كوكب الشرق أم كلثوم أنها أحيت بعد هزيمة 1967 الكثير من الحفلات في مصر وخارجها دعمًا للمجهود الحربي في بلادها، تحت شعار «أم كلثوم معكم في المعركة»، الذي أطلقته الإذاعة المصرية قبل أيام فقط من حدوث الهزيمة، لكن تفاصيل هذه الحفلات وما جرى قبلها وأثناءها وبعدها تكاد تكون غائبة عن الجميع. وهنا تكمن أهمية كتاب «أم كلثوم وسنوات المجهود الحربي» للكاتب المصري كريم جمال، الصادر عن مكتبة تنمية بالقاهرة عام 2022، الذي يوثق حقبة مهمة من تاريخ مصر الثقافي من خلال تتبعه تفاصيل هذه الحفلات. إنها «محاولة للبحث عن وجه آخر لأم كلثوم» كما يقول المؤلف في مقدمته، وجه لم يأخذ حقه من تسليط الضوء عليه منذ وفاتها في منتصف سبعينيات القرن الماضي.

يوثق كريم جمال خمس سنوات من عمر أم كلثوم، هي من أهم السنوات في التاريخ المصري الحديث، وتحديدًا منذ أغسطس 1967 الذي أحيت فيه أم كلثوم أولى حفلات دعمها للمجهود الحربي في مدينة دمنهور المصرية، وحتى سبتمبر 1972 الذي أحيت فيه الحفلة الأخيرة في جامعة القاهرة. وبين هاتين الحفلتين أحيت الفنانة الكبيرة ثلاث حفلات أخرى في مصر (في الإسكندرية، أغسطس 1967، والدقهلية، فبراير 1968، والغربية، مايو 1967)، إضافة إلى قيامها بثماني رحلات خارج مصر شملت باريس، نوفمبر 1967، والمغرب، مارس 1968، والكويت، أبريل 1968، وتونس، مايو 1968، ولبنان في رحلتين أولاهما 1968 والثانية 1970، والسودان ديسمبر 1968، وليبيا، مارس 1969، وأبوظبي، نوفمبر 1971. أما رحلتها إلى موسكو التي كان مقررا أن تقيم فيها حفلتين، والتي وصلت إليها بالفعل في أواخر سبتمبر 1970، فقد شاء القدر ألا تكتمل بسبب وفاة الرئيس جمال عبدالناصر قبل موعد الحفلة الأولى بعدة أيام.

يُصدِّر كريم جمال الكتاب بتصريح أدلتْ به مطربة العرب الأولى لمجلة الهلال المصرية في أكتوبر 1971 تقول فيه: «أبيت أن أستسلم لليأس بعد النكسة، لم يكن أمامي إلا أحد أمرين: فإمّا إن ألتزم الصمت، وأقبع في ركن من الانهيار النفسي، وإمّا أن أمضي بسلاحي، وهو صوتي، أبذل ما أستطيع من جهد من أجل المعركة، واخترت الأمر الثاني».

ويقول المؤلف إنه بدأ التفكير في تأليف هذا الكتاب عام 2017 عندما نشرت صحيفة لو موند الفرنسية تحقيقا بمناسبة مرور خمسين عاما على حفلة أم كلثوم في باريس، وبدأ العمل عليه عام 2019 مستغرقًا في إنجازه ثلاث سنوات، وهي مدة ليس بالطويلة إذا ما رأينا الجهد البحثي الواضح فيه، وهو الجهد الذي امتدحه المؤرخ والباحث الموسيقي فكتور سحاب في تقديمه للكتاب، بالقول إن المؤلف «ذهب في جمع المصادر إلى مجموعة واسعة من الكتب، والمجلات والصحف، التي راوحت بين الخبر اليومي، وهو الأدق موضعيًّا في تحديد زمان وقوع الأحداث، وبين الكتب التي حلّلت تلك الأحداث، من وجهات نظر متنوّعة ومضى في حسن صوغ الرواية التاريخية لحملة أم كلثوم القومية في مصر والبلدان العربية، حتى في باريس، إلى حدّ أن كثيرا من صفحات الكتاب تصل بالقارئ إلى إدماع عينيه تأثرًا، من الحرارة التي انطوت عليها الكتابة، إحساسًا صادقًا بمجريات تلك الحملة القومية التي أنهت بها كوكب الشرق سيرتها المشرّفة». والحق أن القارئ يمكن أن تدمع عيناه بالفعل تأثرًا في غير موضع من الكتاب، خاصة في فصل رحلة موسكو، حين لزمت أم كلثوم مقعدها في الصالون الملحق بغرفتها في الفندق الروسي ثماني وأربعين ساعة متواصلة، حزنًا على وفاة الزعيم جمال عبدالناصر، «لا تأكل شيئا، ولا تقول شيئًا، ولا تفعل غير الصمت والدموع».

الجميل في الكتاب أيضا أنه يرصد ردود الفعل على هذه الحفلات، سواء مما كتبته الصحافة أو ما ورد في التغطيات الإذاعية والتلفزيونية، ومن ذلك تغطية الصحافة الليبية لحفلة أم كلثوم في مدينة بنغازي عام 1969 التي غلب عليها الحديث عن غضب أم كلثوم من عبارة -قيل إنها بذيئة- سمعتها من أحد الجمهور فردت عليه بصوت واضح ومسموع: «اخرس. قليل الأدب». لكن التغطيات الأجمل كانت في الحقيقة للصحافة الفرنسية التي تبارى الصحفيون وكتّاب الأعمدة فيها للإشادة بصوت وكاريزما الفنانة الكبيرة. ويصلح ما كتبه الصحفي والدبلوماسي الفرنسي، مصري المولد، إريك رولو، الذي عاش في مصر سنوات عديدة ويعرف قدْر أم كلثوم جيّدًا، لوصف المكانة الكبيرة التي وصلت إليها كوكب الشرق في ذلك الوقت، حيث كتب رولو في صحيفة لو موند الفرنسية: «وأم كلثوم المصرية قلّما غادرت عاصمتها، فعشاقها يحجون لسماعها كما يقصدون مكة، فلحضور حفلتها الشهرية بالقاهرة، يركب متوسطو الحال القطار أو الباخرة، ويستأجر الآخرون الطائرة، أما الفقراء فيتلاصقون حول جهاز الراديو. ومساء هذا الاثنين -13 نوفمبر 1967-، اضطُرّ مئات الطلبة العرب إلى الاقتصاد في نفقاتهم للحصول على تذكرة الحفلة العجيبة وعبرها متعة استحضار لحظاتها لسنوات قادمة. كان جميع الممثلين الدبلوماسيين العرب من المحيط إلى الخليج في الموعد، وبدورهم رفض أمراء ورجال أعمال من السعودية والكويت والمغرب أن يتخلفوا عن حفلة امتدت حتى الثانية صباحا».

حاز كريم جمال عن هذا الكتاب جائزة الدولة التشجيعية في مصر السنة الماضية عن فرع التاريخ والآثار والتراث، وهي جائزة مستحقة بكل تأكيد، لأنه كتاب يوثق كما ذكرنا في مستهل هذا المقال- حقبة مهمة من التاريخ الثقافي المعاصر في مصر والعالم العربي.

سليمان المعمري كاتب وروائي عماني