هوامش ومتون : في حمّى «الساحرة المستديرة»

23 نوفمبر 2022
23 نوفمبر 2022

عندما كان الملاكم العالمي محمد علي كلاي «مالئ الدنيا وشاغل الناس» بدءا من حصوله على ذهبية الوزن الثقيل في دورة روما الأولمبية 1960، كتب شاعر العرب الأكبر محمد مهدي الجواهري في عام 1976م قصيدة تفوح منها رائحة السخرية والمرارة عنوانها «رسالة إلى محمد علي كلاي» خصوصا وهو يرى الكل منشغلا بعدّ اللكمات التي يسددها كلاي لخصومه، مشيدا بدقّة التصويب، مديرا ظهره للشعراء وجمال نظمهم، فيخاطب كلاي:

يا سالبا بجماع راحتيه

أغنى الغنى، وأعزَّ مسلوبِ

ما الشعرُ؟.. ما الآداب؟.. ما بدع

للفكر؟.. ما ومضاتِ أسلوبٍ

شِسْعٌ لنعلِكَ كلُّ قافيةٍ

دوت بتشريق وتغريبِ

وشدا بها السُّمار ماثلةً

ما يُفرغُ النَّدمان مِن كوبِ

ودار الزمان دورته، واعتزل كلاي الملاكمة، وأصيب بمرض باركنسون «الشلل الرعاش»، وكاد العالم أن ينسى خبره، حتّى تذكّره، فأسند إليه شرف إيقاد الشعلة الأولمبية في دورة أتلانتا 1996 كما حمل العلم الأولمبي في دورة لندن 2012 م.

ومع أفول نجم كلاي تراجع اهتمام الناس بالملاكمة، وخطف أنظارهم الساحر البرازيلي بيليه الذي كان يصول ويجول في ملاعب كرة القدم متسيّدا المشهد الكروي، وبيليه هو لقبه، أما اسمه الحقيقي فهو أديسون أرانتيس وقد أطلق عليه والده هذا الاسم اعتزازا بالمخترع توماس أديسون، وكان يكتب الشعر، مثلما يهوى العزف على الجيتار، وظهر في عدد من الأفلام من بينها «الهروب إلى النصر» مع سلفستر ستالون، لكن العالم لا يذكر سطرا واحدا من أشعار بيليه، مثلما يتذكر هدفه الألف الذي سجله في مرمى (فاسكو دي جاما) على ملعب (ماركانا) يوم التاسع عشر من نوفمبر 1969م، وهذا أمر طبيعي، فكل المواهب تتصاغر، وتتلاشى أمام موهبة كهذه، ألم يقل الجواهري:

شِسْع لنعلِك كلُّ موهبةٍ

وفداء زندك كلُّ موهوبِ

كم عبقرياتٍ مشت ضرما

في جُنح داجي الجنْحِ غِربيب!.

حتى بزغ نجم مارادونا الذي «يفلت كالصوت

له وجه طفل، وجه ملاك،

له جسد الكرة،

له قلب أسد،

له قدما غزال عملاق»

كما وصفه الشاعر محمود درويش في مقال حمل عنوان (مارادونا) كتبه عقب انتهاء كأس العالم 1986 مشيرا للفراغ الذي خلّفه، بعد انتهاء المونديال وعودته إلى الأرجنتين متسائلا: مع منْ سنسهر، بعدما اعتدنا أن نعلّق طمأنينة القلب، وخوفه، على قدميه المعجزتين؟ وإلى منْ نأنس ونتحمّس بعدما أدمناه شهرا تحوّلنا خلاله من مشاهدين إلى عشّاق؟ ويواصل درويش نثر تساؤلاته «ولمن سنرفع صراخ الحماسة والمتعة ودبابيس الدم، بعدما وجدنا فيه بطلنا المنشود، وأجج فينا عطش الحاجة إلى: بطل.. بطل نصفق له، ندعو له بالنصر، نعلّق له تميمة، ونخاف عليه ـ وعلى أملنا فيه ـ من الانكسار؟».

واليوم، ونحن في خضمّ انشغال الناس بمتابعة مباريات كأس العالم التي تستضيفها الدوحة، لدرجة أن الكثير من أنشطة الحياة الثقافية والفنية توقّفت، أو استمرّت على استحياء، كأن تقام في الفترة الصباحية، بحيث لا تتعارض مواعيد إقامتها مع المباريات، وهو أمر ليس بمستغرب، لاسيّما أن (الساحرة المستديرة) تقوم بدور شبيه بدور الفنون في التقريب بين الشعوب والتعريف في الثقافات، وبثّ رسائل الإخاء والمحبّة والسلام، واحتواء الخلافات، وإيقاظ مشاعر الانتماء الوطني والقومي، كلما عفّى عليها الزمن، وتكلست، بفعل المتغيّرات التي تعصف بالعالم، فنستمتع بمهارات اللاعبين، حين تتقاذف الكرة الأقدام، كما وصف الشاعر معروف الرصافي:

راضوا بها الأبدان بعد طِلابهم

علماً تراض بدرسه الأفهام

فإذا شغلت العقل فالْه سويعة

فاللهو من تعب العقول جمام

إن الجسومَ إذا تكون نشيطةً

تقوى بفضل نشاطها الأحلام

فالأحلام تنشط بنشاط الجسوم، وحين تنتهي الدورة، وتعود الحياة سيرتها الأولى ينبغي أن تكون أكثر نشاطا بعد أن استجمّت العقول ليس لسويعة كما يقول الرصافي، بل لشهر مع (الساحرة المستديرة).