هوامش ومتون :سعيد الغانمي.. الاصطدام بنثر الحياة

25 أكتوبر 2023
25 أكتوبر 2023

حين نقلتُ خبر الوضع الصحّي المتأزّم للباحث والناقد والمترجم سعيد الغانمي الذي يرقد منذ أكثر من شهر ونصف على سرير الشفاء، في مستشفى بمدينة (بيرث) الأسترالية، بعد تعرّضه لأزمة مفاجئة، إلى الصديق المشترك الشاعر سيف الرحبي، قال «لم نعد نقوى على فراق شخص بحجم الغانمي، معرفة موسوعية وأخلاق رفيعة وكل الخصال الإنسانية والجمالية التي صرنا نفتقدها في الكثير من أوساط الثقافة العربية»، وقد وجدت في هذه الرسالة القصيرة تلخيصا للغانمي الذي رفد المكتبة العربية بأكثر من ستّين مؤلّفا في الفكر واللغة والترجمة والنقد، باحثا وإنسانا، ولي مع الغانمي والرحبي حكاية استعدتها حين نشر الغانمي في صفحته، قبل تدهور صحّته، ودخوله في غيبوبة طويلة، مقالا كتبه عام 1988م وكان قراءة في ديوان الرحبي (مدية واحدة لا تكفي لذبح عصفور) والمقال منشور في كتابه (منطق الكشف الشعري) الصادر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر عام 1999م، أعادني المقال إلى سنوات بعيدة خلتْ، حيث الأحلام الكبرى التي لم تحدّ من تدفّقها آلة الحرب في ثمانينيات العراق في أيام كتابته للمقال، وكان قد التحق بدراسة الترجمة بجامعة الموصل، وصارت لقاءاتنا في مدينتنا -مدينة الحرية- تتوقّف على إجازات الطلبة والفرص المتاحة، التي كان يتحيّنها، للعودة إلى بغداد، ومكتباتها العامرة، ونشاطاتها الثقافية المستمرّة، في تلك السنوات كان قد أصدر كتابه الأول (اللغة علما) عام 1986م، وذات يوم أخبرني أنه تلقّى عن طريق البريد العادي ديوانين لشاعر عُماني اسمه سيف الرحبي هما (رأس المسافر) و(مدية واحدة لا تكفي لذبح عصفور) من إحدى دور النشر الخليجية، فوفّر لنا الناشر فرصة الاطلاع على تجربة قطب من أقطاب الحداثة الشعرية في منطقة الجزيرة، وبعد أن قرأهما بدأ بالكتابة عن الثاني مختتما مقاله بانتصاره لقصيدة النثر بقوله «إن الحياة هنا تصطدم بنثر الحياة الذي لا يستطيع أن يعبّر عن نفسه بالقصيدة الموزونة، بل بقصيدة النثر فقط»، رغم أنّ الغانمي كان يكتب قصيدة التفعيلة، ومفتونا بتجربة محمود درويش، ويحفظ الكثير من أشعاره، وحين أسأله إن كان ينوي جمع نصوصه في ديوان، يجيبني «لم يحن الوقت بعد، وسأصدر ديوانا واحدا في حياتي أسمّيه (البدايات الأخيرة)» وهذا ما فعله في عام 2011م أي بعد أكثر من ربع قرن من التخطيط له، والديوان صدر عن دار الكتب الوطنية في هيئة أبوظبي للثقافة والتراث، ولم ينشر ديوانا سواه، فقد بقي الشعر بالنسبة له مساحة للبوح، وفي الشهور الأخيرة دأب على نشر نصوص عمودية في صفحته الشخصية بالفيسبوك، فقد بقيت روح الشاعر حيّة في داخله، وأضفت صبغة شعرية على لغة بحوثه ومقالاته، ودراساته، وترجماته.

وممّا أذكر، أنّني في مهرجان المربد الشعري الذي أقيم عام 1989 دخلتُ فندق المنصور ميليا، فوجدتُه واقفا مع ضيف لم أكن قد التقيت به في المرابد السابقة، فسألني: هل عرفته؟ حدّقت بوجهه، فقابل نظراتي بابتسامة، وانتشلني من ارتباكي حيث قال لي: رأس المسافر، ومدية واحدة لا تكفي.. عندها قلت: سيف الرحبي، وكان ذلك أوّل لقاء جمعني به، كذلك كان سببا في اللقاء الأوّل الذي جمعني بالروائي الراحل حسن مطلك، وكان يلتقي به في جامعة الموصل، لنبدأ صداقة وثيقة، كانت تكبر يوما بعد آخر حتى رحيله معدوما في 1990م.

محطّات كثيرة جمعتني بالصديق سعيد الغانمي من بينها أحاديثنا الطويلة التي تشهد عليها شوارع (الحرية)، وعملنا في مجلة (أسفار) الثقافية التي كانت تصدر عن منتدى الأدباء الشباب، ولقاءاتنا في عمّان، في إجازاتنا، وكم فرحنا عندما نال جائزة الشيخ زايد للكتاب عام 2017م عن كتابه (فاعلية الخيال الأدبي)! فقد جاءت تتويجا لإنجازاته الإبداعية، وجهوده المعرفية، وبقي ودودا، متواضعا، كثير الصمت، ميّالا للعزلة، منصرفا للقراءة والدرس، والبحث المعرفي والجمالي، مثلما عرفته عام 1978م.

وآخر لقاء جمعني به كان خلال زيارتي لبغداد في ديسمبر الماضي خلال إقامة معرض العراق الدولي للكتاب، وكنت برفقة الصديقين: عدنان الصائغ ود. سعد التميمي، وحين سألته عن صحّته، وكان قد تعافى من مرض السرطان الذي أصاب الأمعاء، طمأنني أنّ العملية التي أجراها نجحت بالقضاء عليه، وأنه بخير ولن يستسلم للموت إلّا بعد أن يصدر (100) كتاب، قلت له ضاحكا: إذن لا يزال أمامك (40) كتابا، واليوم كلّنا أمل أنّ يغادر سريره، رغم أنه توقف قلبه النبيل قبل أيام لمدة (6) دقائق، وتعرّض لنزف داخلي، وأجرى الأطباء له عمليتين جراحيتين، ويكمل مشروعه المعرفي.