هوامش ومتون : «روح الكون» ولغة الحمائم والعنادل
في سنوات طفولتنا، في السبعينيات، حيث كان المدّ الوطني والقومي في أوج طوفانه، كانت الأناشيد وضربات عصا غليظة على طبل كبير، يجثم أمام عضو من أعضاء الفرقة الكشفية الطلابية، تشعل جذوة الحماس في أجسادنا النحيفة الصغيرة، حين نقف صباحا في الطابور المدرسي، وتبلغ الذروة عند رفع العلم، مرفرفا على وقع كلمات الشاعر جميل صدقي الزهاوي:
عشْ هكذا في علوّ أيّها العلمُ
فإننا بك بعد الله نعتصمُ
فإن تعش سالما عاشت سعادته
وإن تمت ماتت الآمال والهمم
ويوصي شاعر أفريقي في نصّ له، بدفن جثمانه
«تحت الأشجار الظليلة الضخمة
فإنني أريد أن أسمع قرع الطبول
وأحسّ بأقدام الراقصين» كما يقول. وقد عرف الإنسان الموسيقى منذ بدء الخليقة، وقد دلّت الآثار على ذلك، يقول ديورانت في كتابه «قصة الحضارة» كانت الأدوات الموسيقية تُصنع «من قرون الحيوانات وجلودها وأصدافها وعاجها، ومن النحاس والخيزران والخشب، وتطوّر السلّم الموسيقي، حتى أصبح على ما هو عليه الآن».
وحين قال شوبنهاور: «ليست الموسيقى شيئا يضاف إلى العالم، إنها عالم قائم بذاته» فإنه نظر للموسيقى بوصفها كوكبا يسبح في مجرّات الأرواح، يعطي العالم معنى جديدا، بل هي «روح الكون»، كما يرى أفلاطون، وقديما اعتبرها الفلاسفة أحد أعمدة الحكمة الأربعة إلى جانب: الهندسة والحساب والفلك، وكان الكثير من العلماء العرب يهتمّون بالموسيقى إلى جانب اهتمامهم بعلوم الفلسفة، واللغة، والرياضيّات، والفلك، والعلوم الأخرى، كالخليل بن أحمد الفراهيدي، ويعقوب بن إسحاق الكندي، والجرجاني، وابن الخطيب، وابن باجة.
ويربط الدارسون تطور الدول بالموسيقى، فهي تعطي مؤشرا لازدهارها، وعلى العكس يحصل عندما تتراجع تلك الدول، فتذبل النغمات، وتركن الفنون الموسيقية جانبا، وفي الصين القديمة أدت الموسيقى دورا وضعها في الصدارة، ولو بحثنا في تراثنا لوجدنا أن الموسيقى ازدهرت في العصر العباسي الزاهر بالعلوم، والمعارف، في ذلك العصر نبغ زرياب الذي تتلمذ على يد إسحاق الموصلي في عصر هارون الرشيد، وعلى مسامع الخليفة في قصره المنيف، غنّى زرياب حين قدّمه الموصلي له:
يا أيّها الملك الميمون طائره
هارون راح إليك الناس وابتكروا
فأعجب به، واحتفى به احتفاء جلب له حسد الحسّاد وفي مقدمتهم أستاذه الموصلي!
ومنذ أن أصغت مسامع الإنسان للإيقاعات الأولى، لم تنفصل الموسيقى عن الحياة، وأزماتها، وما تتعرض له الأوطان، من حروب، ومحن، فوضع مؤلفون موسيقيون كبار كموزارت وبيتهوفن وجوزيف هايدن مقطوعات موسيقية حماسية، بل عُدّت السيمفونية الخامسة لبيتهوفن في الحرب العالمية الثانية رمزا للمقاومة ضد الزحف الألماني، الذي شنه هتلر على الحلفاء، فللموسيقى والأناشيد دور في بثّ روح الحماس في نفوس الجنود ورفع معنوياتهم في ساحات التدريب والقتال، فارتبطت الأنغام الموسيقية الحماسية بالبزّة العسكرية والمارشات والمواكب التي تتوجه للقتال في أزمنة الحروب، لكن الموسيقى في أوقات السلم تخلع البزّة المطرزة بالنياشين وتضعها جانبا لتحوّل خطابها إلى لغة حوار وتفاهم بين شعوب العالم، لتبعث رسائل حبّ للحياة والجمال، وظلت الموسيقى العسكرية حاضرة في الاحتفالات الوطنية والمناسبات وصرنا نسمع بين حين وآخر موسيقى القِرب والطبول وآلات النفخ والأبواق، وقد أشار ميكافيلي إلى الأخيرة في كتابه «فن الحرب» ناصحا الضباط الذين يقودون المعارك بإصدار أوامرهم لجنودهم من خلالها، لأن صوتها يكون مرتفعا ومسموعا، وهذا ما تأكد لنا في الاحتفال الذي أقامته دار الأوبرا السلطانية مسقط «الموسيقى العسكرية: من عُمان والعالم» مشاركة منها باحتفالات سلطنة عمان بعيدها الوطني الثاني والخمسين المجيد، حين ملأت أصوات الأبواق مسامعنا ولم نفزع، ونتهيأ لغارة من الغارات في أزمنة الحروب، بل تمايلنا طربا، مثلما فعلنا حين سمعنا أصوات بقية الآلات إلى جانب فقرات العزف الأوركسترالي، في عُمان السلام والأمان، فتحولت لغة الآلات الموسيقية التي صيغت لشحذ الهمم في أرض المعسكرات، وساحات القتال إلى أنغام موسيقية عذبة، ولغة حمائم وعنادل، تطرب لها الأرواح قبل المسامع.
