هوامش... ومتون : حماقات شعريّة جميلة!
يروي نص (القروي الساذج) للشاعر الفارسي جامي ( 1414-1493م)، حكاية شاب قروي قدم من الصحراء إلى بغداد، فصدم من كثرة الناس، وحين شعر بالنعاس، أراد أن ينام، ولفرط سذاجته، تساءل بصوت مسموع: حين أستيقظ، كيف أعرف نفسي؟ فربط يقطينة بكاهله، واستغرق في نوم عميق لكن أحد الخبثاء سمعه ورأى ما فعل، ففكّ اليقطينة، وربطها بكاهله، ونام إلى جانبه، ولما استيقظ الشاب، رأى دالته مربوطة في كاحل شخص آخر، فصرخ:
«إني منذهل بك
فهل أنا هو، أم لا؟
وإذا كنت أنا، فلماذا اليقطينة في رجلك؟
وإذا كنت أنت، فأين أنا ومن أكون؟»
وهي تساؤلات تأخذنا بعيدا عن منطقة السذاجة، وتسحبنا لمنطقة الشعر.
في كتابه (أخبار الحمقى والمغفلين) يذكر ابن الجوزي خبرا مشابها هو خبر الأحمق (هبنقة) الذي من حمقه أنه جعل في عنقه قلادة من ودع وعظام وخزف وقال: أخشى أن أضلّ نفسي، ففعلت ذلك لأعرفها به، فحوّلتِ القلادة ذات ليلة من عنقه لعنق أخيه، فلما أصبح قال: يا أخي، أنت أنا، فمن أنا؟
ولهذا قالت العرب (أحمق من هبنقة)، ويذكر ابن الجوزي أن جحا روي عنه ما يدل على فطنة وذكاء إلا أن الغالب عليه التغفيل، وربما كان يتعمّد ذلك، مثل (أبي وهب بهلول) الذي يوصف بأنه (أعقل المجانين) وكان حكيما يدّعي الجنون، يروى أن الخليفة هارون الرشيد خرج للحج فرآه في الكوفة، فقال له: كنت إليك بالأشواق، فقال: لكني لم اشتق إليك، قال: عظني يا بهلول، قال: وبمَ أعظك؟ هذه قصورهم وهذه قبورهم!
وعودة لجحا قيل أن بعضًا من كان يعاديه وضع له حكايات، ومما ورد في طرائفه أنه عندما مات أبوه قيل له: اذهب واشتر الكفن فقال: أخاف أن أشتري الكفن فتفوتني الصلاة عليه، وسمع قائلا: ما أحسن القمر!، فرد عليه: أي والله خاصة في الليل»، ويرى ابن الجوزي أن الحمق غريزة، وينقل خبرا عن ابن إسحاق هو «إذا بلغك أن غنيا افتقر فصدّق، وإن بلغك أن فقيرا استغنى فصدق، وإذا بلغك أن أحمق استفاد عقلا فلا تصدّق»
وصرنا اليوم نتلقّى الكثير من الفيديوهات الطريفة، التي يقوم أصحابها بأفعال تتصف بالحمق، وكلما ارتقى صاحب ذلك الفعل بالمسؤولية، أو بالشهرة، عظم فعله، وترك أثرا لا يزول بسهولة، يقول الشاعر:
لكل داء دواء يستطب به
إلا الحماقة أعيت من يداويها
وروي أن عيسى (عليه السلام) أتى بأحمق ليداويه، فقال أعيتني مداواة الأحمق ولم تعيني مداواة الأكمه والأبرص».
حكايات كثيرة وردت في تراثنا عن الحمقى، ففي (العقد الفريد) خبر عن أبي دحية القصاص قال في قصصه يوما: كان اسم الذئب الذي أكل يوسف هملاج، قالوا: إن يوسف لم يأكله الذئب، قال: فهذا اسم الذئب الذي لم يأكل يوسف.
أما حماقات الشعراء، فتلك قصة! فمن الشعراء من عرف بالحمق، وضعف الموهبة، ومن أخبار الشعراء الحمقى، قال الصولي: «كان لمحمد بن الحسن ابن فقال له: إنّي قد قلت شعرا، فقال له: أنشدنيه، قال: فإن أجدت هل تهب لي جارية أو غلاما؟
قال: أجمعهما لك، فأنشده:
إن الديار طيفا
هيجن حزنا قد عفا
أبكينني لشقاوتي
وجعلن رأسي كالقفا
فقال: يا بني إنك لا تستحق جارية ولا غلاما
ولكنّ أمك مني طالق ثلاثا إذا ولدت مثلك
وإذا كان محمد بن الحسن طلّق زوجته، بسبب بيتين قالهما ولد متطفل على الشعر، فالنتيجة لم تكن مشابهة بالنسبة لأبى الحسن بن منصور الحلبي الذي قال: «كنت أحضر مجلس سيف الدولة فحضرته وقد انصرف من غزو عدو له ظفر به، فدخل الشعراء للتهنئة قال شاعر:
وكانوا كفأر وسوسوا خلف حائط
وكنت كسنور عليهم تسلقا
فأمر سيف الدولة بإخراجه، فبكى، فأمر بردّه، وسأله: لماذا تبكي؟ فأجاب:
قصدت مولانا بكل ما أملك فلما خاب أملي وقابلني بالهوان ذلّت نفسي، فبكيت»
فقال له سيف الدولة: ويلك من يكون له مثل ذلك النثر يكون له ذلك النظم؟ وضاعف له العطاء، وهذه ليست قاعدة، بل من الشواذ، ولعله أراد مدارته، لأن «الشاعر الجيد ناثر جيد بالضرورة، فإن جناح الشعر لن يحلّق بعيدا حتى لو توهّم» كما يقول الشاعر فوزي كريم، ولكن، لو عدنا إلى تساؤلات (القروي الساذج):
«فهل أنا هو، أم لا؟
وإذا كنت أنا، فلماذا اليقطينة في رجلك؟
وإذا كنت أنت، فأين أنا ومن أكون؟»
أليس ما تفوه به هو الشعر؟ يقول الدكتور خزعل الماجدي «الشعر كائن بدائي متوحش إلى حد كبير يبدو وكأنه ولد للتو، وهو يمثّل طهر الطبيعة وبكوريتها، لأنه متمرّد على الأعراف».
هذا المتمرّد، ربّما ننحاز له، فنعتبره بدائية بينما يعتبره الآخرون سفاهة، وحمقا!
