هوامش.... ومتون: حلم جلجامش المكسور

04 أغسطس 2021
04 أغسطس 2021

كالنار في الهشيم، انتشر خبر استرداد 17 ألف لوح طيني مسماري مهّرب من الولايات المتحدة الإمريكية في خطوة وصفت بـ "أكبر عملية استرداد آثارية عراقية" منذ بدء عملية نهب الآثار بعد ٢٠٠٣، وقبل ذلك أعلنت وزارة العدل الأمريكية أنها ستعيد للعراق لوحا مسماريّا أثريا عمره ٣٥٠٠ عام يوثّق جزءا من (ملحمة جلجامش)، وقد حُملت الألواح على متن الطائرة التي أقلّت رئيس الوزراء العراقي في إشارة رمزية لمنجز، باعتبار هذا العمل مكسبا ثقافيا، وحضاريّا لا يقلّ عن المكاسب السياسية التي ينتظرها الشارع العراقي من حكومته، ومع هبوط الطائرة الرئاسيّة بمطار بغداد بما حملت، دار حديث حول اللوح المستردّ، الذي عرف بـ (حلم جلجامش)، في ملحمة اعتمدت الأحلام في بنائها، فورد فيها أكثر من حلم، فعن أي حلم يجري الحديث؟ في مقال لها، منشور في مجلة انفورمد كومينت، تحدّثت الكاتبة جوان كول عن جريمة (إبادة التاريخ) في العراق، وقالت "لن تصلح إعادة حلم جلجامش ذلك"، وحسب المقال تمت سرقة ٤٠٠٠ قطعة أثرية، ومنها هذا اللوح الذي كان محفوظا في متحف الإنجيل، وهناك من تساءل : هل اللوح المستردّ لم يدرج ضمن الألواح الاثني عشر للملحمة التي كتبت قبل ما يقرب من أربعة آلاف عام؟

واضح أنّ خبر ذلك اللوح كشف عن جهل بالموضوع، ففات على الكثيرين وجود عدة نسخ من الملحمة، لا يمكن تحديدها، وهناك كسر كثيرة في الألواح، فلا توجد نسخة كاملة بألواحها الاثني عشر، وكلّ كسرة تُكتشف هي جزءا من أحد الألواح، ولا تمثّل اكتشافاً جديداً إلا إذا كانت تحمل أسطرا مفقودة.

وقد ذكر عالم المسماريات، والآثار د.نائل حنون في مقدّمة ترجمته للنص المسماري للملحمة " منذ اكتشاف أول قطعة من (ملحمة جلجامش) قبل أكثر من مائة وثلاثين عاما، وإلى يومنا هذا، واكتشاف كسر ألواح الملحمة يتوالى في المواقع الأثرية المنتشرة في العراق وسوريا وفلسطين وتركيا"، وقد شبّهها بمجموعة صور التقطت لمشهد واحد في أوقات مختلفة، ثم مزّقت هذه الصور إلى مئات القطع، ووزّعت في أماكن متعدّدة مجهولة، وأن الرواية القياسيّة للملحمة هي التي استنسخها سين- ليقي- اونيني، وظهرت في حوالي القرن ١٣ ق.م، مشيرا إلى وجود كسر تعود إلى٧٣ لوحا من ألواح الملحمة التي وضع ترقيماً لأسطرها، وبالرجوع إليها نرى أن ترجمته الصادرة عن دار الخريف في دمشق ٢٠٠٦ جاءت مرقّمة، مع ذكر إشارات للأسطر المفقودة، حتى يمكن إضافة أيّ كسرة تكتشف في المستقبل، لتوضع بمكانها الصحيح في نسيج الملحمة، ومعظم هذه الأسطر تأتي متفرّقة، ففي صفحة٧٣ على سبيل المثال أشار إلى أربعة أسطر مفقودة بدءا من التسلسل٤٩ ولغاية ٥٢ مشيرا في الهامش إلى أن هذه الأسطر( مخرومة من النص) وفي هوامش اللوح الثاني يشير إلى وجود خروم عديدة، لذا اعتمد النسخة البابلية القديمة في إكمال تكوين هذا اللوح حيثما يوجد نقص فيه، وبهذا نفهم وجود نسخة بابلية قديمة رجع إليها في ترجمته للنص الأكدي، وسدّ النقوصات الموجودة به والأجزاء المفقودة، وفي ص١٩٤ أشار إلى وجود٣٤ سطرا مفقودا من النص وهي الأسطر ٨٥- ١١٨.

وفي بعض المواضع يشير إلى وجود نقص، كما في ٢٠٤ يتمثّل بجواب صاحبة الحانة على خطاب جلجامش، وبهذه الحالة عاد للنسخة البابلية القديمة ليكمل النقص، فالملحمة بشكل عام كاملة من حيث البناء، باستثناء سطور قام بتحديد أماكنها.

ومع استرجاع الآثار نودّ التذكير بأن علماء الغرب منذ عشرات السنين، يقرؤون النصوص وينكبّون على تحليلها، وترجمتها، وترصد مراكز البحوث ميزانيّات على معاجم لغات العراق القديمة، ومشاريع علمية خاصة بحضارة وادي الرافدين وقد أصدرت آلاف البحوث عنها، ومن المؤسف أنّنا لم نرَ شيئا منها من قبل أبناء هذه الحضارة، الذين يرفعون، بمناسبة، وبدونها، راية الدفاع عنها، والسؤال المطروح هو: هل يمكن لألواح الطين، أن تضع مساحيق تجميل على العلاقة بين أمريكا، وبلد يعاني اليوم من الكثير من المشكلات؟

هل يمكن لحلم جلجامش المكسور أن يرمّم بعض الخراب الذي أحدثته جريمة " قتل الأب"، ومحاولة إبادة الذاكرة؟

وهل يتوجّب علينا القلق، مجدّدا، على مصير تلك القطع الأثرية؟

ولكي لا نكون كمثل الحمار يحمل أسفارا علينا الاهتمام بها، وقراءتها، وتحليلها، لترميم حلم جلجامش المكسور، منذ عصور.