هوامش ومتون :تجلّيات روحيّة بدار «مسقط»

05 أبريل 2023
05 أبريل 2023

يرتبط الإنشاد الديني، بالمناسبات الدينية كالمولد النبوي، ورأس السنة الهجرية، والإسراء والمعراج، والاحتفالات المجتمعية، والأعياد، وكثيرا ما شاهدنا الدراويش من أتباع جلال الدين الرومي يحملون الدفوف، ويقدّمون الأناشيد في الساحات العامّة، وقرب أضرحة الأولياء الصالحين، ضمن أجواء روحية، والمعروف أنّ أغلب موضوعات الأناشيد الدينية المديح النبوي، والتقرّب إلى الله، وتمجيد ديننا الحنيف، وتجد هذه الأناشيد إقبالا عليها كونها تغذي الجانب الروحي والوجداني لدى السامع، ولنا مع الإنشاد الديني تاريخ قديم، فهو يرتبط بالسنوات الأولى لشروق فجر الإسلام، لعلّ أقدمها:

طلع البدر علينا من ثنيّات الوداع

التي استقبل بها أهل المدينة المنوّرة النبي -عليه الصلاة والسلام- كما يرجّح البعض، دون وجود سند يؤكّد المناسبة، ولكنّ الإنشاد الديني، عرفه العرب قبل ذلك، فهناك إرث غنائي كان منتشرا في منطقة الجزيرة، لكنّه استوى على عوده في العصر الأموي، مستندا عليه، وصار فنّا له ضوابط ولقي اهتماما من قبل الخلفاء، واستمر الحال في العصر العباسي، عندما ازدهرت الموسيقى، أسوة بالشعر، والأدب، وشجّع الخلفاء على ذلك، ومن بينهم الواثق بالله الذي كان يجيد وضع الألحان، والغناء فقرّب من مجلسه إسحاق الموصلي، وتلميذه زرياب وقبل ذلك والده إبراهيم الموصلي الذي رحّب بالخليفة هارون الرشيد بعد توليه الخلافة، منشدا:

بهارون استقام العدل فينا

وغاض الجور وانفسح الرجاء

تبعت من الرسول سبيل حقٍّ

فشأنك في الأمور به اقتداء

فقرّبه منه، وبتعاقب الحقب تطوّر الإنشاد الديني الذي صار فنًّا له أصوله، وضوابطه، في العصر الحديث، وكثرت فرق الإنشاد التي جعلت منه فنًّا شعبيًّا، ولكلّ منطقة من المناطق منشدوها، وأناشيدها التي تنبع من موروثاتها والفنون الشعبية المنتشرة بها.

ولفنّ الإنشاد المصري ميزاته، فقوة الصوت، وجمال الأداء يأخذان بالأسماع، والألباب، كذلك مزاوجته بالغناء المعاصر، ولم أستغرب عند حضوري الحفل الذي أحيته فرقة الإنشاد الديني التابعة لدار الأوبرا المصرية عندما استضافتها «الأوبرا السلطانية مسقط» في دار الفنون الموسيقية حين شاهدت على المسرح آلات حديثة كالكمان والتشيلو والكونترباص إلى جانب الآلات الموسيقية الشرقيّة كالقانون والعود والناي والدف والرق والطبلة، هذه المزاوجة طوّرت القوالب اللحنية، وبثّت روح الحداثة في الإنشاد الديني، لذا أدرجت الفرقة أغنية أم كلثوم الخالدة (القلب يعشق كل جميل) التي كتب كلماتها الشاعر بيرم التونسي ووضع ألحانها رياض السنباطي وأدّتها: سماح عبّاس، ضمن فقرات برنامج الحفل الذي حلقت خلاله الأرواح عاليا، وهي تصغي للابتهال الذي كتبه الشاعر عبدالفتاح مصطفى، ووضع ألحانه بليغ حمدي، للشيخ النقشبندي، وقال له: وضعت لحنا سيبقى 100 سنة»:

مولاي إني ببابك قد بسطت يدي

من لي ألوذ به إلاك يا سندي

ويكرّر الكورال هذا البيت على امتداد زمن الابتهال، فيما يردّد صوت المنشد (محمد عبد الحميد) بقية أبيات الابتهال في مزاوجة آسرة بين صوته والكورال والمنشدين:

أدعوك يا رب فاغفر ذلّتي كرم

واجعل شفيع دعائي حسن معتقدي

وانظر لحالي في خوف وفي طمع

هل يرحم العبد بعد الله من أحدِ؟

كلمات تدخل القلب مباشرة بدون استئذان، وتخاطب الوجدان، وتسمو بالنفس، والحسّ، وكان الجمهور يتمايل طربا مع المنشد، ويردّد معه مثلما فعل مع ابتهال «قمر سيدنا النبي» البسيطة التي تقوم على التكرار:

قمر..قمر..قمر سيدنا النبي قمر

وجميل وجميل وجميل سيدنا النبي وجميل

الله الله

ولا ظلّ له بل كان نورا

تنال الشمس منه والبدورا

الله الله

ولعلّ الأنشودتين المذكورتين (مولاي إني ببابك) و (قمر) من أجمل ما سمعنا في مجال الإنشاد الديني، فرغم الكمّ الكبير الذي نسمعه من الأناشيد بقي النوع قليلا جيد، ربما لأن المطربين الكبار لم يقدّموا إسهامات غنائيّة مثلما قدّمت أم كلثوم، وقد يكون ذلك بدافع من نشأتها الدينية، والمناخ العام في أربعينيات وخمسينيات وستينيات وسبعينيات القرن الماضي الذي كان يشجّع على ذلك، قبل ظهور موجات الغناء الاستهلاكي -غنّت أم كلثوم (ولد الهدى) عام 1949م و(القلب يعشق كل جميل) عام 1972م- باستثناء المطرب والملحّن لطفي بوشناق الذي أسّس فرقة للإنشاد الديني وأسماء أخرى قليلة، من بينها المصري محمد ثروت، ولم يجد المطربون ملحنين كبارا مثل بليغ حمدي ورياض السنباطي يصوغون لهم ألحانا ترتقي بالروح إلى معارج السماء، بل لم يجدوا مسارح كبيرة تحتضن الإنشاد الديني، وتقدّمه لجمهورها، كما تفعل دار الأوبرا السلطانية مسقط، ضمن تقليد سنوي دأبت عليه في شهر رمضان والمناسبات الدينية كالمولد النبوي، وقد جاءت فرقة الإنشاد الديني في دار الأوبرا المصرية لتقول إن الإنشاد الديني فن مجتمعي تقدّمه فرق شعبيّة في ساحات شعبية عامة، لكن هذا الفن يمكن أن يقدّم على مسارح دور الأوبرا لما يحمل من قيمة فنية روحيّة عالية.