هوامش ومتون : الكبيرُ.. رضيعًا
بعض وصايا الأدباء والمفكرين غريبة، وغالبا ما تكون ملغومة برسائل للأحياء، كوصية عالم الاجتماع د.علي الوردي الذي أوصى، كما قال المحامي رؤوف الصفار، أن يُدفن «في مقبرة الأطفال، لأنّ الطفل لا يكذب ولا يكون مزدوج الشخصية»، ويبدو أنّ أسرته لم تأخذها على محمل الجدّيّة، ولم تنفّذ وصيته، فدفنته في مقبرة براثا في الكاظمية ببغداد، لا مخالفة لرغبته، بل ربما فهمتها بأنه أراد أن يبثّ رسالة مفادها أن ازدواجية الشخصية التي تحدّث عنها في كتبه آفة اجتماعية لم يسلم منها سوى الأطفال كونهم كائنات بريئة لا تعرف الزيف، ولا الكذب، وقد لفتت انتباهي فقرة في وصية الشاعر محمد مهدي الجواهري الأولى التي كتبها ببغداد عام 1977، وسلّمها للدكتور محمد حسين الأعرجي، تلك الفقرة هي الخامسة، وفيها يطلب من أهله «أن يعبّروا عن حزنهم لفقدي باحترام إرادتي، والكلام للجواهري، أن يكونوا مثالا للوقار والسكينة، والصمت الحزين لدقائق معدودات، وبإنارة الشموع لي بينهم ما تيسّر لهم ذلك والسلام»، ومع ذلك لم ينعم الشاعر الكبير بالصمت الحزين، وهو القائل:
أنا أبغض الموتَ اللئيمَ وطيفَه
بغضي نيوب مخاتل نصّاب
يهبُ الردى شيخوختي ويقيتها
بكهولتي ويقيتها بشبابي
ذئبٌ ترصّدني وفوق نيوبه
دم أخوتي وأقاربي وصحابي
فعندما توفي في دمشق 1997 شيّعت جثمانه جماهير غفيرة بدمشق ودُفن في مقبرة الغرباء قرب مرقد السيدة زينب، وكُتب على أسفل شاهدة قبره:
أنا عندي من الأسى جبلُ
يتمشّى معي وينتقلُ
أنا عندي إن خبا أملُ
جذوة في الفؤاد تشتعلُ
إلى جانب أبيات أخرى، وظلّت جذوة شعره متّقدة تلهم الأجيال الجديدة، فيما رقد صاحبها إلى جوار شعراء ماتوا غرباء كمصطفى جمال الدين، ويوسف الصائغ، وعبد الوهاب البياتي المتوفى عام 1999م، الذي أوصى بدفنه قرب مرقد الشيخ محي الدين بن عربي، على مسافة قريبة من شيخ من شيوخ الصوفية، فيطلّ قبره على سفح جبل قاسيون، كما قال:
«عدتُ إلى دمشق بعد الموت
أحمل قاسيون
أعيده إليها
مقبِّلا يديها
طاردني أمواتها
وأغلقوا عليّ باب القبر»
أمّا الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد فقد دُفن في باريس بحضور عدد قليل من أصدقائه ومحبّيه، رغم أنّه أوصى بدفن جثمانه في الأردن، ثم ينقل للعراق بعد أن تتحسّن ظروفه، ويستتبّ الأمن، وأوصى الشاعر سعدي يوسف أن يُدفن رماده بمقبرة «الهاي جيت» في لندن.
استدعيت كلّ ذلك وأنا أتوقّف عند وصيّة الشاعر الراحل مظفر النواب، التي طلب فيها دفنه إلى جوار أمّه في مقبرة السلام بالنجف الأشرف، في الوقت الذي كانت نيّة الحكومة العراقية دفنه في (القشلة) بالباب المعظّم ببغداد، ليزور قبره مرتادو شارع المتنبي، وهو تقدير لم ينله شاعر قبله، تماما مثل التقدير الذي حظي به جثمانه، عند تشييعه، بشكل لم يتوفّر لشعراء عراقيين كبار توفّوا في سنوات سابقة، وظروف خاصة، ولم تكن تلك الوصية نابعة من زهد شخصي بالأضواء، فالشاعر الذي يتوق للفرادة ليس من السهل عليه تقبّل فكرة أن تضيع شاهدة قبره وسط ملايين الشواهد، ولا أظنّه كتبها تعزيزا لقناعة معيّنة تندرج تحت بند فئوي، وهو الشاعر الثوريّ الذي عاش بعيدا عن وطنه، وكان جلّ ما يخشاه، أن يموت غريبا:
دمشق عدتُ وقلبي كلّه قرح
وأين كان غريب غير ذي قرحِ
ضاع الطريق وكان الثلج يغمرني
والروح مقفرةٌ والليلُ في رشح ِ
أصابحُ الليلَ مصلوبا على أمل
أن لا أموت غريبا ميتةَ الشبح ِ
لقد تخلّى النوّاب، في وصيّته، عن أمجاده الشعرية، وفضّل النوم، مثلما كان صغيرا، إلى جوار أمّه، مردّدا قول المعري:
مضتْ وقد اكتهلتُ فخلتُ أني
رضيع ما بلغت مدى الفطامِ
فقد تعب من الرحيل، والقطارات، والمطارات:
«أين سيذهب من لا بيت له
ولا امرأة وطنا؟
سبحانك مهما بلغ الطائر
يتعب من دون مطار»
وها هو يرتاح إلى جوار أمّه، مديرا ظهره لمريديه، وعشّاق شعره الذين كانوا سيتوافدون بالعشرات، يوميّا، يلتقطون الصور التذكارية التي تغصّ بها صفحاتهم في وسائل التواصل الاجتماعي، فيما ترتفع عقيرته بالغناء العراقي ذي الشجن المعروف:
«وتروح وتجي الأيام
والوليلك بكلّ الرازقي الميّت
على شبابيك أمس
والدنيا تمطر ليل
أكلّك نام
مامش كلش بالشباك غير الريح
وطير صغير
ما يرضاش يحط ببلاد
طير مصوّب بقلبه الصغير
ويشتهي بغداد»
