هوامش ومتون: الصحافة الفنّيّة.. "والله زمان"!
تزامن هبوط الطائرة التي حملتني على مدرج مطار القاهرة مع سماعي أحد مقاطع أغنية وردة الجزائرية "والله زمان"، استحضرت نجوم الغناء العربي، وأحسست أنني نزلت في عاصمة الفن، والفنانين، وبلمح البرق عدت إلى السبعينيّات التي شهدت ذروة سنوات النشاط الفنّي العربي، السينمائي، والغنائي، والموسيقي، والمسرحي، ومعه ازدهرت الصحافة الفنّيّة، فكانت مجلّة "الكواكب" التي صدر العدد الأول منها في 28 مارس 1932 تأتي إلينا من مصر، وهي متخصّصة بنشر أخبار نجوم السينما، والتلفزيون، ومقالات عنهم، وتحرص على إجراء حوارات معهم، وكانوا يتعاطون معها، مهما كانت منزلتهم، وفي مقتبل حياتي، أواسط السبعينيّات، كنت أتردّد على جريدة "المزمار" عارضا محاولاتي الأولى في الكتابة، فاقترح عليّ الصحفي الراحل رياض السالم إجراء حوار مع الفنان المصري محمد توفيق الذي كان يعمل أستاذا في كلية الفنون الجميلة ببغداد، فتردّدت، وقلت له: وهل تظنّه سيوافق؟ ففوجئ بسؤالي، وألقى عليّ محاضرة في أهمّية الصحافة الفنية، وحرص الفنانين على التواصل مع الصحفيين، ومكانة الصحفي، بل بعض الفنانين عمل في الصحافة الفنية قبل أن ينتقل للفن، ويصبح نجما كسعيد عبدالغني الذي بدأ حياته المهنيّة صحفيّا في جريدة الأهرام، وقد نشرت مجلة "الكواكب" في عدد صادر عام 1955 حوارا أجرته الفنانة شادية مع النجم عماد حمدي عندما كان زوجها، كما كشف الناقد أحمد السماحي، وأصرّت على كتابة الموضوع بنفسها، وسلّمته في موعده المحدّد، وفي مقدّمة الحوار تحدّثت (شادية) عن اتّفاقها بينها، ومجلة "الكواكب" للقيام بالمهمّة لتكون إحدى مندوباتها لإجراء حوار صحفي مع أحد النجوم، وكانت قد خرجت من البيت ثمّ عادت " لتمثّل" دور صحفية، وعن تلك اللحظات تقول "عندما فتحتْ لي الخادمة الباب قلت لها: الأستاذ عماد موجود؟! فنظرت الخادمة إليَّ في دهشة وشك دون أن تنطق بشيء، فاستطردتُ أقول، وأنا أدخل: أنا عارفة أنه موجود، قولي له أن فيه واحدة صحفية من مجلة "الكواكب" جاية تأخد منك حديثا للمجلة، وعندما وجدتُ، والكلام لشادية، الخادمة لا تزال في وقفتها تنظر إليّ في دهشة من الأمر، طلبت منها تنفيذ ما أمرتها به"، وحين سمع عماد حمدي بوجود صحفية في المنزل أسرع لملاقاتها، ولم تكن تلك الصحفيّة سوى زوجته، ووسط جدّيتها، ودهشته، أجرت" شادية" المقابلة المطلوبة!
ولم تستأثر مصر بذلك، فمن بيروت، كانت تأتي إلينا مجلّة "الموعد" التي أسّسها محمد بديع سربيه عام1953، ومعها "الصيّاد"، و"الشبكة"، في وقت كان التسابق في الإنتاج الفني يمشي على قدم، وساق، وأحسب أن الصحفيين العاملين فيها أينما ولّوا وجهوههم وجدوا مادّة دسمة، فالنشاط الفني هو (داينمو) الصحافة الفنّيّة، وصار، يومها، الصحفيون نجوم مجتمع، الجميع يطلب ودّهم، لأنّهم يمتلكون (سلطة)، فكم من مقال نشر عن فيلم ساهم في إقبال الجمهور على دور العرض السينمائي!، وكم من (سبق صحفي) تسّرب عن حياة واحد من النجوم رفع سقف مبيعات المجلة التي نشرته !
وفي 24/6/2020، توفّي في المغرب واحد من رموز الصحافة الفنية العربية هو الصحفي (رمزي صوفيا)، المولود عام 1928 م في بغداد ، وممّا عرفته عن الراحل أنّه كان صديقا للفنّانين، فقد أجرى حوارات عديدة جمع بعضها في كتاب حمل عنوان (أيّام مع النجوم) طُبع في بيروت عام 1969، ولعلّ من المثير أن المطرب (عبدالحليم حافظ )، كتب مقدّمته، وهي المرّة الوحيدة التي كتب بها العندليب الأسمر مقدّمة كتاب، وهذا دليل على المكانة الرفيعة التي كان يحتلّها الراحل الذي تدرّج في المواقع، حتّى عمل في الثمانينيات مستشارا فنّيّا لجلالة الملك الراحل الحسن الثاني، في ذلك الوقت لم تكن الصحافة الفنّيّة تقف عند الهامش، بل كانت ضمن المتون، ورجل الإعلام يحتلّ اليوم مكانة مرموقة في العالم، وعند وصول المذيع، ومقدّم البرامج الذي يعمل في قناةCBS الأمريكية ستيفن كولبرت، المطار في نيوزيلندا لإجراء مقابلة مع رئيسة وزرائها جاسيندا ارديرن، وقف خارج صالة المطار بانتظار سيّارة تقلّه إلى الفندق، ولم يطل انتظاره، فسرعان ما وصلت، ونزلت قائدتها لمساعدته في حمل الحقائب، وكانت المفاجأة أنّ قائدة السيّارة كانت رئيسة الوزراء نفسها، وبسيارتها الشخصية !!
لقد عاشت الصحافة الفنية عصرها الذهبي في عصر الكبار في الغناء، والموسيقى والسينما، وخلال حضوري دورة مهرجان أبو ظبي السينمائي 2013 م، رأيت الناقد السينمائي طارق الشناوي محاطا بمحبة، واهتمام نجوم السينما: يسرا، لبلبة، فتحي عبد الوهاب، فكان نجما على النجوم، واليوم مع تراجع الإعلام التقليدي، وظهور الإعلام الجديد، وتعثّر الإنتاج الفنّي، صرنا نتحسّر على الصحافة الفنية، مثلما نتحسّر على "الحب اللي كان " في أغنية وردة.
