«هل هذه الرواية حقيقية؟»

24 فبراير 2024
24 فبراير 2024

كثيرًا ما يُطرح على الروائي في عالمنا العربي سؤال: «هل هذه الرواية حقيقية؟»، أو: «هل هذا البطل هو أنت؟»، خصوصًا إذا ما وضع الروائي لهذا القارئ طُعْمًا - بقصد أو بدونه - يتمثل في تفصيلة ما، معروف أنها تخصّ المؤلف، كالاسم مثلًا، أو المهنة المتشابهة لدى الاثنين: المؤلف وبطله الروائي، فهل يسوّغ هذا التشابه - إن وُجد - أن يُطرح على الروائي ذلك السؤال؟

للإجابة سأستشهد بحكاية ذات مغزى سردها الروائي اليمني حبيب عبدالرب سروري في كتابه «الرواية مدرسة الحياة» (دار «المحيط» للنشر، 2023) ليدلل بها على أهمية وقوة فنّ التخييل، وهي أنه قرأ ذات مرة روايةً لروائي فرنسي، خلط فيها - أي سروري - بين حياة الراوي وحياة الكاتب «لفرط حميمية السرد فيها، ولوجود مطب أو مطبين افتعلهما المؤلف أو استعارهما من حياته الواقعية المعروفة» ليجعل القارئ يظنّ أنه هو الكاتب نفسه! وهو ما انطلى على حبيب سروري، الذي ظن بعدها أنه يعرف كلّ تفاصيل حياة هذا الرجل، الأكثر حميمية، عندما كان في بداية العشرينيات من عمره!

يضيف الروائي اليمني أنه بعد سنوات، قرأ لهذا الكاتب رواية أخرى، «تدور في سنوات عمره نفسها في الرواية السابقة، حشر فيها، في سياق حياة الراوي، مطبات صغيرة توهيمية أخرى»، كما اكتشف سروري بعد قراءتها، «لكن لا علاقة لأحداث الرواية الجديدة بالرواية الأولى من قريب أو بعيد، حياتان لا يربطهما رابط»! مضيفًا أنه لو كان قد قرأ الرواية الثانية، قبل الأولى، لَظنّ أنه يعرف تفاصيل حياة الكاتب في تلك السنوات، ليقرر بعدها - أي سروري- ألا يقرأ أي رواية غير مكتوب في غلافها «سيرة ذاتية» إلا باعتبارها رواية تخييلية، وإن حاول الكاتب جعل القراء يظنون أنها حياته، مؤكدًا أنه تعلّم من ذلك الدرس «مدى مقدرات التخييل الجبارة على توسيع العالم، عبر خلق حيوات جديدة تُضاف للحيوات الحقيقية».

هذه المقدرات الجبّارة للتخييل تحدث عنها أمبرتو إيكو بالقول: «التخييل الروائي قد يكون أكثر صدقًا من الحقيقة عينها، وإنه يستطيع أن يدخلنا في حالة من المطابقة مع الشخصيات لنجد أنفسنا فيها، فيجعلنا نفهم الظواهر التاريخية، ونكتسب أساليب جديدة من الإدراك الحسي».

ويتحدث إيكو في مقاله الذي نشرتْه مجلة إسبريسو الإيطالية (وترجمه إلى العربية معاوية عبد المجيد) عن الفرق بين الخيال والكذب، «فالروائي لا يرغب أن يكون كاذبًا، بل يتصور أنّ ما يقصّه قد حدث بالفعل، ويطلب منا أن نشاركه التخيّل، تمامًا كما نتقبّل طفلًا يمسك عصا ويلعب بها كما لو كانت سيفًا». ويضرب الروائي الإيطالي مثالًا بتأثرنا نحن القراء بمصير إيما بوفاري بطلة رواية «مدام بوفاري» (لفلوبير) حتى البكاء، «مع أننا نعرف أنها من صنع الخيال الذي يدفعنا إلى البحث عن ذاتنا في عمق شخصيتها، وإذا لم يكن لمدام بوفاري أي وجود، فإن الكثير من النساء يشبهنها حقًّا، وربما يشبهها بعض الرجال أيضًا، وهكذا نتعلم درسًا عن الحياة بشكل عام وعن أنفسنا بشكل خاص».

وإذن، فإن سؤالَي: «هل هذه الرواية حقيقية؟»، و«هل هذا البطل هو أنتَ؟» لا ينبغي أن يُطرحا على الروائي، مهما ظننّا أنه يتحدث عن نفسه، بل حتى إن وضع اسمه بطلًا للرواية، فما دامت كلمة «رواية» تُزيِّن غلاف الكتاب، فعلينا أن ننسى المؤلف، ونتفرغ فقط للاندماج في الحكاية وشخصياتها، والاستمتاع بقوة التخييل.

سليمان المعمري كاتب وروائي عماني