نوافذ .. عن النوم والصحو

26 مارس 2022
26 مارس 2022

بعد أيام من احتفال العالم باليوم العالمي للنوم الذي يوافق الجمعة الثالثة من شهر مارس من كل عام، حدث أن اختبرتُ بالصدفة أهميّة النوم بعد ظرف شخصي اضطرني إلى أن أنام خلال يومين ساعتين فقط لا أكثر. بدا لي حينها وأنا أشتاق للنوم فلا أجده أن عبارة «انضم إلى عالم النوم، حافظ على إيقاعاتك، لتستمتع بالحياة» التي اتخذتها الرابطة العالمية للنوم شعارًا لاحتفال هذا العام (2022) ليست سوى شعار مضحك، يَفترِض أن الدخول للنوم هو بسهولة شرب الماء، ولا يحتاج من المرء إلا قرارًا بسيطا، بينما النوم هو في الحقيقة أكثر تعقيدًا من هذا التبسيط.

يروي مدرب التنمية الذاتية الشهير دايل كارنيجي في كتابه «دع القلق وابدأ الحياة» حكاية جندي مجري اسمه بول كيرن أصيب خلال مشاركته في الحرب العالمية الأولى برصاصة في رأسه ما لبث أن شُفِي منها. لكنه للعجب لم ينم منذ اخترقت تلك الرصاصة مقدمة مخه. «جرب الأطباء معه كل ما عُرِف من عقاقير منومة، بل جربوا المخدرات، والتنويم المغناطيسي» لكن دون جدوى، حتى إنهم تنبأوا له بعدما أعيتهم الحيل بالموت القريب جراء هذه الحالة. لكن الرجل خيب كل توقعاتهم وعاش بلا نوم منذ تلك الرصاصة أربعين عاما كاملة دون أن تبدو عليه أية مضاعفات سلبية!.

حالة هذا الجندي المجري التي قرأتها مؤخرًا ذكرتني بحالة فيودور نسترشوك، الرجل الأوكراني الذي كتبتُ عنه مقالا قبل أكثر من خمسة عشر عاما. كان يبلغ حينها ثلاثة وستين عاما، قضى آخر عشرين عاما منها بلا نوم، ولكن دون أن يبدو عليه أي تأثر، الأمر الذي حير الأطباء كثيرا، أما أنا فقد كنتُ أحسده على فائض الوقت لديه الذي كان يستغله في القراءة. إن كان هذا الرجل لا يزال على قيد الحياة فهو الآن على أعتاب الثمانين، واليوم بالذات لا أظن أن أحدًا سيحسده على الصحو الدائم وهو في بلد يتعرض للاحتلال والقصف اليومي.

وفي الواقع، نحن نتعجّب من الاستيقاظ الدائم لكن نادرًا ما تعجَّبْنا من النوم المستمر، ليس فقط لأننا اعتدنا ذلك في موروثنا العقائدي منذ أخبرنا القرآن الكريم أن جماعة من الناس نامت ثلاثمائة عام ونيف ثم استيقظت دون أي تأثر، بل أيضًا لأننا اعتدنا حالة النوم الدائم لدى المصابين بأمراض خطيرة ونسميها غيبوبة أو موتًا سريريا. لكن ماذا لو أن هذا النوم الطويل كان من الأمور الاعتيادية للشخص ولا يتسبب في أي تأثير سلبي للنائم سوى ضياع وقته. هذا بالضبط ما يحدث للهندي بورخارام الذي يعيش في ولاية راجاستان الهندية. ما إن يقرر هذا الرجل أن يضع رأسه على الوسادة ليأخذ قيلولة بسيطة حتى يغطّ في نوم عميق يستمر لخمسة وعشرين يوما!، وهو ما يجعل أيام نومه في السنة ثلاثمائة يوم من 365 يوما. يفسّر الأطباء هذه الحالة الغريبة لبورخارام بحالة نادرة تسمى HPA axis hypersomnia . وإذا كنّا قد سمعنا من قبل عن المسرنمين أي الذين يمشون أثناء نومهم، فإن حالة هذا الرجل النَوّام جعلتني أسمع لأول مرة بمن يأكل وهو نائم!، ذلك أن بورخارام ما إن يقع فريسة للنوم (ويحدث ذلك أحيانا في محل بقالته الذي لا يفتحه بسبب نومه إلا خمسة أيام في الشهر) حتى تحمله عائلته إلى المنزل، وتلجأ بين فترة وأخرى إلى إطعامه؛ بل وغسل قدميه أثناء نومه.

في النهاية لا أظن بورخارام سعيدًا بنومه الطويل هذا الذي يبعده عن عائلته ومصدر رزقه، مثلما لا أظن أن الجندي المجري أو الرجل الأوكراني كانا سعيدَيْن بهذا الصحو الدائم في عالم يحتاج المرء ليستوعب كل فظاعاته إلى شيء من الغياب عن الوعي. ولذلك فإن النوم مثله مثل بقية الحالات التي يمر بها الإنسان، يصبح نعمة عندما يكون بالقدر الضروري لحياتنا، وينقلب إلى نقمة عندما يزيد عن حاجتنا أو يقل عنها.