نوافذ: عُمانية في أرض الهنود الحُمْر

10 يوليو 2021
10 يوليو 2021

وافق الأول من يوليو الجاري عيد استقلال كندا عن التاج البريطاني. وقد كانت كندا - ولا تزال - قِبلة مفضّلة للدراسة لعدد من الكتّاب العُمانيين، أذكر منهم على سبيل المثال الروائيَيْن عبدالعزيز الفارسي وحسين العبري، والشاعر منتظر الموسوي، والكاتب المعتصم البهلاني. ورغم أن هؤلاء أقاموا في كندا لسنوات، إلا أن أيًّا منهم لم يكتب شيئًا عن هذه الإقامة وما شاهده فيها أو واجهه من تحديات أثناء دراسته هناك، باستثناء بعض القصص القصيرة لعبدالعزيز الفارسي في كتابه الأخير "رجل الشرفة، صياد السحب"، لذا فإن فرادة كتاب "مذكرات سال؛ عُمانية في أرض الهنود الحُمر" للكاتبة سلامة العوفية الصادر مؤخرًا عن مكتبة كنوز المعرفة، تكمن في هذه النقطة بالذات، فهي ترينا بالتفصيل كيف عاشت طالبة دراسات عُليا عُمانية سنتين كاملتين في كندا منذ لحظة وصولها مدينة فانكوفر عام 2015 وحتى مغادرتها بعين دامعة عام 2017.

كانت سلامة العوفية قد حصلت عام 2014 على بعثة دراسية من وزارة التعليم العالي لنيل درجة الماجستير في تطوير المناهج، لكنها أجلت البعثة عامًا ريثما تحصل على قبول في جامعةٍ مناسِبة، وكانت هذه الجامعة في نهاية المطاف بريتش كولومبيا التي تعد من أفضل ثلاثين جامعة في العالم. وقد صحبها في هذه الرحلة طفلاها وزوجها الذي لم يكتفِ بتشجيع زوجته على الإقدام على هذه الخطوة ومساعدتها في تذليل صعابها، بل قرر هو الآخر انتهاز الفرصة والحصول على قبول للدراسة في جامعة قريبة من فانكوفر، لتبدأ هذه الأسرة المكافِحة حياة جديدة مختلفة كليًّا عن الحياة المستقرة التي اعتادتها في عُمان.

منذ اليوم الأول بدأت سلامة تسجيل يومياتها عن هذه الرحلة، بدءًا بالمطر الغزير الذي استقبلها في المطار، ومرورًا برحلة البحث عن بيتٍ ملائم للسكن، وحضانةٍ ومدرسةٍ للطفلين، وليس انتهاء بتفاصيل الدراسة وحكايات أساتذتها وزملائها، ومَنْ صادفتهم خلال هاتين السنتين. وقد تراوح السرد بين لغة أدبية فاتنة كلما تحدثت سلامة عن نفسها وهواجسها ومخاوفها وتأملاتها في الحياة والبشر، ولغة صحفية تقريرية عندما تسرد تفاصيل الدراسة وشروطها ومتطلباتها ونظام المحاضرات فيها، ومناقشاتها مع الأساتذة والزملاء، وفي كلتا اللغتين لا يخلو السرد من الإمتاع والمؤانسة، لاهتمامها بالتفاصيل الصغيرة للحكايات التي أفردتْ لها فصولًا بعناوين جاذبة من قبيل: "أريد العودة إلى عمان حالا"، و"عجوز الكاميرا الخفية"، "مائة رأس بصل في أروريغون"، "المندازي ودرس في التاريخ"، و"محمد عبده في المكتبة"، وغيرها من العناوين.

ترى سلامة العوفية أن "الاستقرار في مدينة جديدة يشبه الوقوع في الحب لأول مرة؛ تشعر بالخدر من حُسْن المحبوب بدايةً، ولكنك تعلم أن الطريق طويل إلى قلبه" ثم تقدم نصيحتها الذهبية: "تُريد أن تشعر بالاستقرار في أسرع وقت ممكن؟ تخَلَّ عن توقعاتك". وبالفعل، حين تخلت عن توقعاتها بدأت مدينة فانكوفر تُسلِم لها القياد، ليشعر القارئ كلما تقدم في القراءة أن سلامة أضحت ابنة المدينة لا مجرد مقيمة مؤقتة، لم تفعل العوفية كما يفعل كثيرٌ من العرب في بعثاتهم الدراسية، إذ يتقوقعون على أنفسهم، ولا يخالطون إلا أقرانهم العرب، ولا يندمجون بأهل المدن التي يعيشون فيها. بل على العكس من ذلك كانت سلامة تقتحم المدينة ومقاهيها ومكتباتها ومحطة حافلاتها وناديها الرياضي، تتحدث مع أشجار الطريق وتركل حصيّاته، تخرج في رحلة مع زميلتَيْن لها كندية وآسيوية لممارسة رياضة الهايكنج في غابات سكواميش، تشارك زميلتها الآسيوية يوليانا في مشروع دراسي واحد، تتطوع لمرافقة صفّ ابنتها في إحدى الرحلات. وحتى عندما تُفرَض عليها نقاشات عن الدين والإيمان مع مُبَشِّرَيْن مسيحيين فإنها لا تهرب وإنما ترد على أسئلتهما بآيات من القرآن، بل وتسرد ساخرةً حكاية أحد الطلبة العرب من معتنقي نظرية المؤامرة الذي نصحها بحذف المادة التي سجلتها مع الدكتورة ليزا لأنها –كما يزعم- عنصرية ضد العرب والمسلمين، وتتعمد ظلمهم في الدرجات، وتخبرنا في نهاية الحكاية أنها لم تمتثل لنصيحته وحصلت في مادة هذه الدكتورة على الدرجة (A). لقد أحبت سلامة فانكوفر واندمجت مع سكانها وأحبتهم بصدق حدّ أنها ترددتْ عندما سُئِلتْ إن كانت قد تعرضت فيها للعنصرية وهي المسلمة المحجبة، فاكتفت بسرد واقعتين كما حصلتا تاركةً الحكم للقارئ، الذي لن يغيب عنه عند تأملهما أنهما حادثتان تنطويان على عنصرية بغيضة، حتى وإن لم تقل سلامة ذلك.

ولأنه كتاب يسرد حكاية طالبة دراسات عُليا فإن أكثر ما يُلفِت الانتباه في "مذكرات سال" هو النظام التدريسي في الجامعات الكندية، الذي يفسِّر لماذا هي من أفضل الجامعات في العالم. ليس هذا فحسب، بل إن نظام تدريس الأطفال هو أيضا نظامٌ فريدٌ من نوعه. حكاية هذا النظام التعليمي المميز في كندا تستحق أن تُسرَد وحدها في مقال مستقل الأسبوع القادم.