نوافذ.. صورة العائلة

24 سبتمبر 2022
24 سبتمبر 2022

يخبرنا تولستوي في افتتاحية روايته الشهيرة "آنا كارنينا" أن العائلات السعيدة تتشابه، أما العائلات التعيسة فإن كلًا منها لها طريقتها الخاصة في الشقاء. لكن كيف نعرف أن هذه عائلة سعيدة أم شقية؟ ماذا لو رأينا صورة جماعية لأسرة كل أفرادها يبدون منسجمين، هل يعني هذا أنها أسرة سعيدة؟ هل الأم دائما هي "نبع الحنان" والأب عنوان القسوة؟ هل تعمل الظروف الحياتية الضاغطة على خلق شعراء وفنانين أم أنها تكبتُهم؟ إلى أي مدى يستطيع الحبّ أن يصنع إنسانا سويًّا خاليًا من العُقَد النفسية؟ هذه الأسئلة وغيرها تطرحها بتمكُّنٍ فنّي قصةُ "صورة العائلة" للقاصة العُمانية سارة بنت علي المسعودية التي تُوِّجتْ منذ يومين بجائزة القصة في الملتقى الأدبي والفني بمسقط.

وإذا كان الرسام الألماني بول كِلي يرى أن "الرسم لا يعيد إنتاج المرئي، بل يجعله مرئيًّا"، فإنه يمكن اعتبار قصة سارة المسعودية المُعارَضة السردية لهذه المقولة. فالفنانة بطلة القصة لا يهمها جعل واقع الصورة مرئيًّا بقدر انهماكها في إعادة إنتاجه من جديد في لوحتها المعتمدة تفاصيلُها على صورة للعائلة وهي تحتفل بعيد الأضحى. إن اختيار هذه اللحظة لبدء القصة اختيار موفق، ذلك أن المفترض أن تظهر العائلة في يوم احتفالي كهذا وهي سعيدة. فهل كانت سعيدة حقًّا؟ هذا ما ستعمل الفنانة على كشفه طوال السرد.

ثمة طبقات من القصص داخل هذه القصة، أو كما سماها مازن حبيب -أحد عضوي لجنة تحكيم القصة في مسابقة الملتقى- قصة ثلاثية الأبعاد؛ فالقصة الأولى التي هي الأساس قصةٌ ساكنة داخل صورة فوتوغرافية ناقصة، أبطالها عائلة عادية مكونة من الأب والأم والجدة والابن والبنت الشاعرة، في حين لم تظهر البنت الأخرى الرسامة في الصورة لأنها هي ملتقطتُها. أما القصة الثانية فمتحركة داخل لوحة فنية غير مكتملة تشتغل عليها في زمن السرد الابنةُ الرسامة، في حين تفاجئنا سارة في الجزء الأخير من السرد بالقصة الثالثة؛ قصة هذه الرسامة التي هي القاسم المشترك في القصص الثلاث.

يتكشف لنا شيئًا فشيئا أثناء تقدم السرد أن هذه العائلة غير سعيدة، وأن لها -بلغة تولستوي- "طريقتها الفريدة في الشقاء"، ومن هنا تحاول الفنانة جاهدةً إعادة ترميم العائلة في لوحتها، من خلال إعادة ترتيب مواقع أفرادها في الصورة وتقريب الأم من الأب (المبتعدَيْن في الواقع)، ومن خلال محاولة صنع ابتسامة حقيقية للأم، وإعادة رسم ابتسامة الأب اليائسة، وتجاهل الخيوط المتهدلة من أكمام ثوبه الأبيض، "وطمس بعض الاصفرار القليل البارز عند ياقة ثوبه" ليبدو ثوبًا جديدًا خِيطَ خصيصًا لهذا العيد، وليس مهترئًا بكثرة الاستعمال. وإذا كانت أختُها الشاعرة قد حُرِمتْ في الصورة من ارتداء الفستان الأزرق الذي تحبه، فإن هذا الفستان سيعود للظهور في أبهى صورة في اللوحة.

من جماليات هذه القصة أيضا أنها تحطّم بعض "الكليشيهات" النمطية عن صورة الأم والأب في المخيلة الجمعية؛ فالأم الراسخة في أذهاننا في صورة المضحّية الدائمة التي تبيت من غير عشاء ليشبع أولادها، وترتدي أثوابًا قديمة لتنعم فلذات أكبادها بالملابس الجديدة، صارت هنا الأبَ، الذي كلما لاحت له الرغبة في شراء شيء خاص له "يشعر بأن ذلك سيكون ضربًا من الأنانية وهدرًا للمال". إنه هنا هو "نبع الحنان" والإيثار الذي يظهر في القصة الأولى (قصة الصورة)، ويستمر في القصة الثانية (قصة اللوحة)، إذْ لم يكلّف الرسامةَ هدرَ كثير من الألوان عليه، "فثوبه وشعره ولحيته كلها باللون الأبيض"، ولا تخفى علينا رمزية هذا اللون. في المقابل فإن الأم متجهمة الوجه، وابتسامتها مزيفة، ومتسلطة، وقد رفضت أن ترتدي ابنتُها الشاعرة الفستان الأزرق الذي تحبّ لأنها -أي الأم- "اعتادت رفض أي شيء لم تتدخل في اختياره، ولم تقرر شراءه حتى ولو توافق ذلك مع ذائقتها". هذا في الصورة، أما في اللوحة فهي أيضًا متعِبة، فاللون الأسود -ولنلاحظ أيضًا رمزية اللون- نفد من ابنتها الرسامة ثلاث مرات وهي تضع ضربات فرشاتها على طرف ثوب الأم.

وظفت الكاتبة ضمير السرد المخاطَب في القصة، وهو في تصوّري الضمير الأصعب بين شقيقيه (ضمير المتكلم، وضمير الغائب). يعرّف الناقد الأمريكي جيرالد برنس السرد بضمير المخاطب بأنه "سرد يكون المرويُّ عليه هو البطل في القصة التي يرويها، أو ترويها"، وهو تعريف نقله عنه المنظّر السردي برايان ريتشاردسون في مقالة له عن الموضوع ترجمها للعربية الناقد المصري خيري دومة. والمرويُّ عليها هنا والبطلة في الآن نفسه هي الرسامة التي نكتشف في نهاية القصة أنها ليست مجرد فنانة تعمل على تحويل صورة فوتوغرافية إلى لوحة فنية، وإنما مشارِكة فاعلة في الأحداث، بغيابها الصارخ عن الصورة الفوتوغرافية، ذلك الغياب الذي لم تستطع تعويضه في اللوحة الفنية إلا بفراغ كبير هو أشبه بصرخة احتجاج مدوّية ضد التهميش والتغييب والنسيان.

عرفتُ سارة بنت علي المسعودية منذ عدة سنوات عندما شاركتْني تحرير كتاب "جهة النبع: شهادات عن الإعلام الثقافي في عُمان"، لكني لم أعرف أنها تكتب القصة إلا من خلال "صورة العائلة". فإذا كانت قد قدمتْ نفسها للقراء قاصّةً بهذه القصة البديعة، فالمؤكد أنه سيكون لها شأن كبير ذات يوم بين كتّاب القصة.