نوافذ.. زمن سعدون جابر
يُدرك كثيرون ممن هم في جيلي، أن الحرص على حضور جلسة الفنان العراقي سعدون جابر الحوارية والغنائية - التي أقيمت مساء الجمعة، وكانت بحق مسك ختام فعاليات معرض مسقط الثقافية - لم يكن حرصًا على سماع مطرب بلغ اليوم الثالثة والسبعين من العمر بقدر ما هي محاولة لاستعادة زمن جميل مضى وانسرب كالماء من بين الأصابع، زمن الثمانينات، عندما كان هذا المبدع يصدح للعالم العربي بأجمل أغانيه: «الطيور الطايرة»، و«يا أمي يا أم الوفا»، و«عيني عيني»، و«عشرين عام»، و«يوم الماشوفك»، و«يا نجوى»، و«جتني الصبح»، و«صغيرون»، و«لوه ولول ولوا»، وعشرات الأغاني غيرها التي جعلته بحق سفيرًا للأغنية العراقية، وجعلت ملحّنًا كبيرًا كبليغ حمدي يسعى إليه ويحرص على التلحين له.
وإذا كان صوت سعدون وألحان أغانيه الشجية هي التي تشّد المستمع إليه، فإنه عندما يتحدث بدون غناء لا يقلّ قدرة على جذب الانتباه والإعجاب، يسنده في ذلك ثقافة كبيرة اكتسبها عبر العُمر بالقراءة والتجارب ودراسة الموسيقى العراقية التي نال عنها الماجستير من إحدى الجامعات البريطانية، ثم الدكتوراه من المعهد العالي للموسيقى العربية في القاهرة. لكن ميزته الأكبر من وجهة نظري هي أنه «فنان حَكَّاء»، فقد وهبه الله قدرة على سرد الحكاية التي تبدو عادية للوهلة الأولى، عن قصة أغنية غناها، أو حكاية لقائه بهذا الشاعر أو ذلك الملحن، لتبدو الحكاية مُدهشة ومليئة بالتفاصيل الإنسانية الحميمة، والنقلات الزمنية، والتأملات العميقة، وفي تصوري أن سعدون جابر لو لم يكن مطربًا فلن يكون محاميًا كما تمنى في أحد حواراته، بل روائيا مدهشا، تجذب رواياته القراء في كل مكان.
من الحكايات المدهشة التي سردها سعدون قصة أغنية «يا نجوى»، وصادف سردها الذكرى السابعة لرحيل مؤلفها الشاعر زهير الدجيلي (رحل في 3 مارس 2016م) وملخصها أن الشاعر أُعجب بفتاة من طالبات إحدى المدارس الثانوية في العراق وسألها عن اسمها، وعندما أخبرته أن اسمها نجوى قال لها: «سأكتب أغنية باسمك وسيغنيها سعدون جابر»، وهذا ما حدث بالفعل، وصارت من أجمل وأشهر أغانيه، لكن المدهش هو تتمة الحكاية. إذ بعد نحو أربعين عاما التقى الفنان في مدينة ميشيجان الأمريكية بامرأة عراقية مقيمة هناك، عرفته بنفسها قائلة: «أنا نجوى التي غنيت لها منذ أربعين سنة» وسردتْ له نفس التفاصيل التي سمعها من الدجيلي قبل أربعين سنة.
ومن الحكايات الجميلة الأخرى التي سردها ردّا على سؤال مقدمة الأمسية؛ الزميلة سهى الرقيشي، حكاية علاقته بالشاعر العراقي الكبير مظفّر النواب، التي بدأت منذ عام 1962م عندما كان النواب مدرّسًا للطالب الصغير سعدون، الذي سيصبح في منتصف التسعينات مطربًا كبيرًا تدعوه سوريا لإحياء حفلة فيها فيذهب بمعية فرقته الموسيقية في باص يقوده بنفسه، ويلتقي هناك بأستاذه مظفر، ويستمع منه إلى قصيدة «رقم هاتف قديم»، وهناك يقرر أن يغني هذه القصيدة في الحفلة بصوته فقط، إذْ لم يكن لديه الوقت الكافي لتلحينها، وكان ذلك سببا في انتشار القصيدة في سوريا.
حكايات مدهشة أخرى سردها سعدون جابر في هذه الجلسة (حكاية أغنية «يا أمي» مثلًا)، أو في حوارات إعلامية سابقة (حكاية تعرفه بالملحن الكبير بليغ حمدي وتعاونه الفني معه) تجعلني أثق أنه لو فكّر في كتابة سيرة حياته في كتاب، سيخرج بكتاب سيرة ذاتية جميل، لا يقل إدهاشًا عن أغانيه الجميلة التي ما زالت تطربنا إلى اليوم، وتعيدنا إلى زمن الفنّ الجميل؛ زمن سعدون جابر.
سليمان المعمري كاتب وروائي عماني
