نوافذ: تلفظ أنفاسها الأخيرة

14 أكتوبر 2023
14 أكتوبر 2023

«يبدو أننا نواجه أصعب شعب عرفه التاريخ، ولا حل معهم سوى الاعتراف بحقوقهم وإنهاء الاحتلال»، لم يكن هذا الرأي تعليقًا على عملية «طوفان الأقصى» الأخيرة التي كتبتْ صفحة جديدة في تاريخ المقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال، وإنما اعتراف عمره سبع سنوات كتبه الكاتب الإسرائيلي آري شبيت عام 2016 ونشرته صحيفة «هآرتس» الإسرائيلية. في هذا المقال يستدعي شبيت مقالًا آخر للباحث الإسرائيلي روجل ألفر يرى فيه أن إسرائيل «وقّعت على شهادة وفاتها، ولم يبق لها سوى انتظار الدمار المحتوم» ويقترح مغادرتها فورًا. يقول شبيت تأييدًا لهذا الاقتراح: «على الإسرائيلي اليوم أن يقول وداعًا لأصدقائه وينتقل إلى سان فرانسيسكو أو برلين أو باريس. من هناك؛ من أرض القومية الألمانية المتطرفة الجديدة، أو من أرض القومية الأمريكية المتطرفة الجديدة، يجب على المرء أن يراقب بهدوء، ويشاهد دولة إسرائيل تلفظ أنفاسها الأخيرة».

المثير للتأمل هنا، أن هذا الرأي المتنبئ بنهاية إسرائيل ليس جديدًا، لكن الإسرائيليين والصهاينة لا يتذكرونه إلا عندما يتلقون ضربات المقاومة الموجِعة. ونستذكر هنا على سبيل المثال ما جاء في مقال للباحث المصري الراحل عبدالوهاب المسيري صاحب موسوعة «اليهود واليهودية والصهيونية» بعنوان «نهاية إسرائيل» (نشِر في «الجزيرة نت» في 18 سبتمبر 2006م) من أنه في أوج حرب إسرائيل على لبنان عام 2006 والصمود المشرف للمقاومة اللبنانية؛ نشر الصحفي الإسرائيلي يونتان شيم مقالًا متشائمًا في صحيفة معاريف (في 17 أغسطس 2006م) بعنوان: «أُسِّستْ تل أبيب في عام 1909، وفي عام 2009 ستصبح أنقاضًا» وجاء في المقال أنه «قبل مائة عام أقاموا أولى المدن العِبرية، وبعد مائة عام من العزلة قُضِي أمرها».

إلى هنا، لا يبدو ما يكتبه الإسرائيليون عن «دولتهم» المزعومة وهشاشتها واحتمالات زوالها مثيرًا للدهشة، فهم يرون بأمهات أعينهم كل عدة سنوات ما يواجه كيانهم المحتل لأرض فلسطين من بسالة المقاوِمين، الذين كلما ضُيِّق عليهم ابتكروا طرقًا جديدة للمقاومة تثير إعجاب العالم ودهشته. لكن أن يأتي هذا التشاؤم من مؤسس إسرائيل وعقلها الاستراتيجي ديفيد بن جوريون فهذا بالفعل ما يدعو للتوقف قليلا. فقد أورد الباحث اللبناني سركيس أبو زيد في كتابه «إسرائيل إلى نهايتها» نقلًا عن السياسي ناحوم جولدمان، وهو أحد مؤسسي إسرائيل أيضًا ورئيس اللجنة التنفيذية للوكالة اليهودية، وكان صديقا لـ«بن جوريون»، أورد تنبؤًا من هذا الأخير بنهاية إسرائيل، وهي لم تتجاوز عامها الثامن بعد. إذ يروي جولدمان في كتابه «المفارقة اليهودية» تفاصيل لقاء ليليّ طويل جمعه في منزل بن جوريون سنة 1956، وُصِفَ بــ«لقاء البوح الخطير». يكتب جولدمان: «في تلك الليلة الجميلة فتح كل منّا قلبه للآخر، وكان حديثنا حول مشكلتنا مع العرب. أنا لا أفهم سبب تفاؤلك، قال لي بن جوريون. بنظري لا يوجد أي سبب يشجع العرب على إقامة سلام معنا. ولو كنتُ، أنا شخصيا، زعيمًا عربيًا لما وقّعت على شيء مع إسرائيل، وهذا طبيعي جدًّا، إذْ نحن الذين قمنا بالسطو على بلدهم»، ثم يضيف: «إنهم لا يرون سوى شيء واحد: لقد جئنا وسرقنا بلدهم. فلماذا عليهم أن يقبلوا بذلك؟».

ليس هذا كل ما قاله بن جوريون، فقد نقل عنه جولدمان ما هو أخطر: «اسمع يا ناحوم. لقد أصبحتُ على مشارف السبعين من عمري. فإن سألتَني ما إذا كان سيتم دفني، إثر موتي، في دولة إسرائيل لقلت لك نعم. فبعد عشر سنوات أو عشرين سنة ستبقى هنالك دولة يهودية. ولكن إذا ما سألتَني ما إذا كان ابني عاموس، الذي سيبلغ الخمسين من عمره في أواخر السنة الجارية (1956)، سيكون له الحظ أن يدفن بعد موته في دولة يهودية فسوف أجيبك: 50/50». قاطعه جولدمان: «كيف لك أن تنام على هذا التوقع فيما أنت رئيسٌ لحكومة إسرائيل؟!» فأجاب بن جوريون بهدوءِ من يحذّر من الآتي: «من قال لك إنني أعرف ما هو النوم يا ناحوم»!

علينا أن نتذكّر هنا أن بن جوريون مَثّل في تاريخ إسرائيل «القابِلة»، والأم الحنون، والعقل المفكّر الذي ينظر إلى بعيد البعيد، وهو صائغ استراتيجيتها للأمن القومي، كما أنه صاحب العبارة الممتلئة تفاؤلًا ببقاء الكيان المحتل عندما قال عن الفلسطينيين إن كبارهم سيموتون والصغار سينسون، فإذا كان هذا هو استشراف مؤسس إسرائيل لمستقبلها وهي طفلة في عمر ثماني سنوات، فإن علينا ألا نندهش عندما يقول إسرائيلي اليوم ممن مَرّغت المقاومةُ الفلسطينية الباسلة أنوفهم في الوحل إن إسرائيل تلفظ أنفاسها الأخيرة.

سليمان المعمري كاتب وروائي عماني