نوافذ .. القراءة أم الكتابة؟
«القراءة أم الكتابة أيهما يأتي أولا قبل الآخر؟»، هكذا اختار مركز الملك عبدالعزيز الثقافي «إثراء» أن يطرح هذا السؤال في استضافته للكاتبة بشرى خلفان، ضمن فعاليته «أسفار أقرأ» التي حطت رحالها في مسقط الأسبوع الماضي، وسعدتُ بتقديمها.
لعل بعضنا لم يفكر يوما في إجابة هذا السؤال، إذ أنه يشبه سؤال: أيهما أولا: الشهيق أم الزفير؟. ليس السؤال تاريخيا، لأن إجابته معروفة؛ إذا لم تكن ثمة كتابة فمن أين تأتي القراءة؟. إنه سؤال وجودي، عن المعنى الذي تشكله هاتان الكلمتان في حياة الكاتب تحديدا.
ماذا لو طرحنا السؤال على شاعر كأنسي الحاج. يجيب في مقاله «حياةٌ من كُتُب» (نُشِر في جريدة الأخبار اللبنانية في 29 أكتوبر 2011): «عشتُ في الكتب. كنتُ أشرب كلّ كلمة، كلّ علامة تَعَجُّب. وأصدّق. قبل الكتب لم أكن أتكلّم، لم أكن أعرف، وإذا تكلّمتُ تَدَعْفَرْتُ وقلت عكس ما أريد. أو ظهرتُ عدوانيًّا، أو متلعثماً أبله. بعد الكتب أصابتني عقدة الصدق. صرتُ أخاف قول أيّ شيء لا يعكس شعوري أو تفكيري تمامًا». إذن القراءة هي الأهم لدى أنسي الحاج كما يمكن أن نستشف، ولكن ماذا لو طرحنا السؤال نفسه على روائي كهنري ميلر. يجيبنا في كتابه «الكتب في حياتي»: «يجب أن أعترف أن القراءة كانت بالنسبة إليّ، خلال الأيام التي سبقت انهماكي في الكتابة، شهوة عارمة ومهلكة أزجي بها وقتي. وعندما أعود بذاكرتي، يبدو لي أن قراءة الكتب لم تكن أكثر من مخدر، يحفز في أول الأمر ولكنه يسبب الاكتئاب بعد ذلك. ومنذ أن بدأت جديًا الكتابة تغيرت لدي عادة القراءة، تسلل إليها عنصر جديد. يمكنني القول إنه عنصر مخصِب. عندما كنت شابا صغيرا، كثيرا ما اعتقدت بعد الانتهاء من قراءة كتاب أنه كان في استطاعتي أن أنجز كتابا أفضل منه بكثير. كنت كلما قرأت أكثر أصبحت منتقِدا أكثر. لم يكن هناك شيء جيد بالنسبة إلي. وبالتدريج بدأت أكره الكتب والكُتّاب أيضا». الكتابة إذن هي الشغل الشاغل لميلر، وما القراءة إلا محاولات للوصول إليها.
هذان نموذجان لشاعر وروائي يمثلان نفسيهما فقط بكل تأكيد، لا كل الشعراء، ولا كل الروائيين.
لكن ماذا لو طرحنا هذا السؤال على ضيفة الجلسة بشرى خلفان التي سألتْها مرة صديقتُها الكاتبة الكويتية باسمة العنزي: ما حلم بشرى؟ فأجابت: «بيت لي وحدي أكتب على جدرانه ما أشاء». تكتب بشرى في شهادة لها عن القراءة وتعدديتها: «نعم، عندما تريد أن تكون كاتبا جيدا، فعليك أن تقرأ كثيرا، بدءًا من كلاسيكيات الأدب حتى علوم الأرض، وأن تبحث عن المعرفة التي تخولك فهما أفضل لنفسك ولشخصياتك المتعددة، وأن تفعل ذلك أولًا وأخيرًا لأنك تستمتع به». تستمتع بشرى بالقراءة، بلا شك. وهذا يتضح في رؤيتها الواضحة لها، وإيمانها العميق بدورها. في حوارها مع هدى حمد لملحق «عمان الثقافي» تحكي عن امتنانها لانتمائها لأسرة تشجع على القراءة، وذهابها نهاية كل أسبوع وهي طفلة لزيارة مكتبة العائلة في فرعها بروي، واقتنائها القصص ومجلات الأطفال المصورة. ولأن إخوتها تعلموا -بحكم السن- القراءة قبلها أرادت أن تكبر بسرعة وتتعلم أكثر لتقرأ ما يقرأون وتعرف ما يعرفون.
ثمة وضوح في رؤيتها للقراءة وعلاقتها بها، فيمكن أن تتحدث عنها باستفاضة دون تردد، أما الكتابة فالأمر مختلف تماما. تستهل شهادة قديمة لها عنها عنوانها «امرأة تجيد التسويف وتكتب» بالقول: «أنا أخاف من هذه اللحظة دائما، اللحظة التي تجبرني أي كتابة فيها على مواجهة أسئلة الكتابة ذاتها، وتقصي تعرجاتها الحادة». بل إنها ظلت فترة طويلة تتردد في وصف نفسها بالكاتبة. تقول في حوارها مع ملحق عُمان الثقافي: «ربما كان لعلاقتي المبكرة بالأدب دور في تهيبي لإطلاق صفة الكاتبة على شخصي، كنت أجدها مسؤولية عظيمة، أن نسهم في إيجاد كل تلك اللذة التي لا توصف، كل تلك العوالم الموازية، العوالم التي استمتعنا بها وكانت لنا نحن كقراء ملجأ ومغامرة وكشفا». القراءة كانت السبب في هذا التهيب إذن.
وفي حين يشتكي الكتاب من حبسة الكتابة نجد أن الحبسة التي تشتكي منها بشرى خلفان هي حبسة القراءة. تقول في شهادتها عن القراءة: «أحيانا أصاب بحبسة القارئ، وقد تمتد لأسابيع، وفي هذه الحالة، أذهب إلى الأفلام الوثائقية». في المقابل وصفت توقفها عن كتابة القصة بين عامي 2007 و2013م بالقول: «لم أكن مصابة بحبسة الكتّاب، كنت مصابة بالذهول، الذهول عن كل ما حولي، وكتابة القصة القصيرة كانت تستدعي حضوري الكامل وأنا لم أكن حاضرة، كانت هناك غلالة تحجبني عن نفسي، تحولني لمجرد ظل يقبع في مكان عميق من العتمة».
قرأت بشرى كثيرا، وكتبت قليلا، إذا ما قارنا عدد كتبها بالأعوام السبعة والعشرين منذ بدايتها الكتابة على استحياء عام 1995م. أصدرت خلال هذه الفترة روايتين لاقتا نجاحًا نقديًا وجماهيريًا لافتًا، هما «الباغ» و«دلشاد» التي أضافت إلى نجاحاتها مؤخرًا جائزةَ كتارا للرواية العربية المنشورة، بعد وصولها للقائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية. كما أصدرت ثلاث مجموعات قصصية هي «رفرفة»، و«صائد الفراشات الحزين» و«حبَيْب رمان»، جمعتها بعد ذلك في كتاب واحد هو «حيث لا يعرفني أحد" مضيفة إليه كتاب نصوصها المفتوحة: «غبار». كما أن لها كتابين عصيين على التصنيف وإن كانا أقرب إلى الشعر هما «مظلة الحب والضحك»، و«ما الذي ينقصنا لنصبح بيتا». كل هذه الكتب تشهد على جدّية تعاطي بشرى مع الكتابة، لكن القراءة ظلت دومًا هي المُقدَّمة لديها، ونستطيع أن نفهم السبب إذا ما تذكّرنا أن الكتابة، لا سيما الإبداعية، هي عزلاء وهشة وضعيفة، إذا لم تكن خارجة من قلم متمرّس مع القراءة.
