نوافذ: الحَكَم سيد الملعب
لا يكاد متابع واحد لمباريات كرة القدم لم يردد في حياته مرة واحدة على الأقل العبارة الكليشيهية «الحكم سيد الملعب»، وهي المقولة التي تجعل القرار الأول والأخير لهذا الحَكَم، ولا يحقّ لأيّ كان من اللاعبين أو المدربين أو إداريي الفريقين أو الجمهور مناقشته في أي من قراراته. وقد ترسخّت سيادته في السنوات الأخيرة بظهور تقنية الـ«فار» VAR التي أسدت له خدمة جليلة جعلتْ أحكامه أكثر إقناعًا وقَبولًا من الجميع، فهي تتيح له مراجعة قراراته، والتأكد من صحتها أو خطئها، ومن ثَمَّ تعديلها إن لزم الأمر. وأضع تحت عبارة «إن لزِم الأمر» ألف خطّ وخطّ، فليس أفضل الحكام في العالم معصوما من الخطأ ما دامت أحكامه تقديرية. آخر مثال على هذا الأمر كان مساء الأربعاء الماضي في مباراة ربع نهائي دوري الأبطال الأوروبي لكرة القدم بين ناديَيْ بايرن ميونيخ الألماني ومانشيستر سيتي الإنجليزي، عندما أشهَر حكم المباراة الفرنسي كليمنت توربين البطاقة الحمراء في وجه أوباميكانو مدافع بايرن ميونيخ معلنًا طرده من الملعب بسبب دفعه للاعب مانشيستر سيتي أمام منطقة الجزاء، لكنه -أي الحكم- وبعد الاحتجاجات، رجع إلى تقنية الـ«فار» فتأكد أن مهاجم مانشيستر سيتي سقط بمفرده دون أن يلمسه أوباميكانو، فكان أن ألغى قرار الطرد، وسمح للاعب بمواصلة اللعب.
حظِي الحكم الفرنسي المتراجع عن قراره بتصفيق اللاعب المطرود وجمهوره، وعليه أن يحمد الله على ذلك، وعلى أن المباراة التي أدارها كانت في ألمانيا وليس في السلفادور، وإلا لواجه مصير الحكم سيئ الحظ خوسيه أرنولدو أمايا السنة الماضية، والذي لم يفعل أكثر من إشهار البطاقة الحمراء للاعب مُخالِف لنيله البطاقة الصفراء الثانية، فما كان من الجمهور وزملاء اللاعب إلا أن انقضوا على هذا الحكم في الملعب وأوسعوه ضربًا أفضى إلى الموت!
حادثة هذا الحكم تذكّر بمرافعة إدواردو جاليانو عن الحكَم في كتابه «كرة القدم في الشمس والظل»: «إنه علة كل الأخطاء، وسبب كل النكبات، ولو لم يكن موجودًا لابتدعه المشجعون، وكلما كرهوه أكثر ازدادت حاجتهم إليه»، من هنا نفهم لماذا طلب الحكم البلجيكي جون لانجينوس التأمين على حياته قبل أن يُحكّم المباراة النهائية في مونديال العالم الأول عام 1930م، بين الأوروجواي -البلد المستضيف- والأرجنتين، التي انتهت بفوز الأوروجواي. ولحسن حظه لم يحدث شيء خطِر أثناء المباراة باستثناء بعض المشادات على المدرجات.
خسر الحكم السلفادوري حياته إذن ليذكرنا بأن كرة القدم تشبه الحياة أحيانًا في لاعدالتها، فلقد قُتِل بسبب قرار صحيح على الأرجح، في حين أن هناك حكامًا كثرًا يرتكبون أخطاء تحكيمية متعمدة مقابل رِشى، أي أنهم يخونون مهنتهم، ومع هذا فإن عقوبتهم -إن حدث واكتُشِف أمرهم- أقل بكثير من القتل. ونتذكّر هنا فضيحة «الكالتشيو بولي» في إيطاليا عام 2006م، المتعلقة بالتلاعب في ترتيب نتائج مباريات في الدوري، والتي كان من نتائجها الحكم بالسجن والحظر من العمل لِمُدَد تتراوح بين خمسة أشهر وأربع سنوات لعدد من الحكام الإيطاليين، وتجريد نادي يوفنتوس من لقب الدوري وهبوطه إلى الدرجة الثانية.
وإذا كان هناك حكام يستحقون العقوبة لارتكابهم أخطاء فادحة متعمدة، فإن ثمة حكّامًا آخرين يرتكبون الأخطاء الفادحة نفسها، لكن دون تعمّد، وإنما لخطأ في التقدير، ناجم عن تشويش أو عدم وضوح الرؤية أمام هؤلاء. ولعل أشهرهم حكمنا العربي علي بن ناصر في مونديال عام 1986م، الذي ما زال خطأ العُمر يلاحقه حتى الآن، والمفارقة أنه لولا هذا الخطأ الفادح ما كان سينال كل هذه الشهرة العالمية اليوم. فقد انطلت عليه حيلة مارادونا، عندما أحرز هدفه الشهير باليد في مرمى المنتخب الإنجليزي فاحتسبه بن ناصر، وبعد سنين طويلة من هذه المباراة زاره مارادونا في بيته بتونس سنة 2015م وعبّر له عن امتنانه مُهْدِيًا إياه قميصه الموقّع.
على أية حال، يمكننا الاستنتاج من قصة علي بن ناصر أن الحكَم وإن كان سيد الملعب، إلا أنه أكثر رجال المستطيل الأخضر تعرّضًا للظلم والإجحاف وعدم الإنصاف، فلا أحد ينتبه له إلا إن أخطأ خطأً فادحًا، وفي كثير من الأحيان لا أحد يعرف اسمه إلا إن قُتِلَ أو سُجن، أو ارتكب فعلًا غريبًا. وعلى مرّ تاريخ كرة القدم، لم يشتهر إلا عدد قليل من الحكام مقارنة باللاعبين والمدربين، لعلّ أبرزهم الحكم الإيطاليّ الشهير بييرلويجي كولينا ذو الصلعة الملساء والنظرة الصارمة المرعبة، الذي كان نجم التحكيم في التسعينيات وبداية الألفية الجديدة.
سليمان المعمري كاتب وروائي عماني
