نوافذ: أن تمنع دستيوفسكي!

05 مارس 2022
05 مارس 2022

تردد اسم فيودور دستيوفسكي كثيرًا في الأيام القليلة الماضية؛ ليس لأنه واحد من أهم أدباء العالم، ولا امتدادًا لاحتفالات المعمورة بمرور مائتي سنة على ولادته، التي بدأتْ في الحادي عشر من نوفمبر الماضي، ولا لأن الأدب العالمي وعلم النفس والفلسفة تدين لهذا الأديب الروسي بالكثير، بل لأن جامعة إيطالية منعتْ تدريس أدبه الرفيع، عقابًا لروسيا على غزوها أوكرانيا!.

ما إن أخطرتْ جامعة بيكوكا في ميلانو أستاذَ الأدب الروسي باولو نوري بهذا المنع الذي سمته تأجيلًا، وما إن أعلن نوري، الذي كان يُفترَض أن يقدم سلسلة محاضرات عن أدب دستيوفسكي في تلك الجامعة، الخبرَ في صفحته على فيس بوك، حتى قامت الدنيا ولم تقعد احتجاجًا على هذا الإقحام الفجّ للسياسة في الثقافة والعلم والأدب، ما اضطر الجامعة إلى التراجع عن قرارها تحت وطأة هذه الاحتجاجات، وهذا يدل على أن دستيوفسكي ليس لقمة سائغة كغيره من الأدباء، وأنه قادرٌ على الدفاع عن نفسه حتى وإن كان قد مات قبل أكثر من مائة وأربعين عاما.

مما قاله نوري في معرِض استنكارِه لقرار الجامعة الإيطالية: "إنهم يَعُدون مؤلف رواية "المساكين" من أنصار بوتين"!، غير أن بوتين في الحقيقة هو الذي أصبح من أنصار دستيوفسكي وليس العكس، وعلينا أن نتذكّر في هذا السياق أن ثعلب السياسة الخارجية الأمريكية هنري كيسنجر وصف بوتين ذات مرة بأنه "شخصية خارجة من رحم أدب دستيوفسكي". وما نقرؤه من سيرة بوتين كقائد روسي منذ توليه زمام الحكم في روسيا عام 1999 وحتى اليوم يؤكد هذا الإعجاب بدستيوفسكي. ففي إبريل 2017 مثلًا انتقد بوتين مؤسسات القروض السريعة في روسيا قائلًا: إن المرابية العجوز في رواية "الجريمة والعقاب" تبدو في غاية التواضع بالمقارنة مع هذه المؤسسات. وفي موقف آخر نصح محافظي الأقاليم في الاتحاد الروسي بقراءة روايات دستيوفسكي للتعرف على طريقة التعامل المثلى مع التيارات الليبرالية والعدمية التي كان دستيوفسكي حسّاسًا إزاءها. بل إنه في إحدى مقابلاته الإعلامية أعلن إعجابه بروايتي "الإخوة كارامازوف" و"الجريمة والعقاب". بيد أن الأهم في هذا السياق أن بوتين جسّد أفكار دستيوفسكي على أرض الواقع؛ فقد كان هذا الأخير يؤمن بالروح السلافية لروسيا؛ الأم أو الأخت الكبرى التي يقع على عاتقها مهمة سماوية لقيادة الأمة السلافية، والقادرة على توحيد شقيقاتها عند الضرورة. في "يوميات كاتب" يتحدث عن أن هذه الشقيقات ستتخلى عن روسيا في وقت الشدة، لكنها ستعود إليها ذات يوم وستصبح تابعة لها بثقة عمياء، "سيعود الكل إلى عُشِّهم الأصلي"، هكذا يؤكد دستيوفسكي. أليس هذا ما يحاول بوتين فعله مع أوكرانيا اليوم!.

لكن هل كان دستيوفسكي سيرضى باحتلال بوتين أوكرانيا لو أنه بين ظهرانينا اليوم وهو الذي عبّر في أدبه ويومياته دومًا عن انحيازه للحرية والعدالة ومناهضة الظلم، وذاق في سبيل ذلك السجن في شبابه وحكم الإعدام؟. الإجابة السهلة هي أن الأديب الروسي لا يمكن أن يفعل ذلك. لكن الإجابة الأصعب قد تطل برأسها (ولو من كوة ضيقة) عندما نتذكّر أن صاحب "مذكرات من منزل الأموات"، أيد دعم روسيا للصرب في حربهم ضد الأتراك (ما بين عامي 1876 و1878م) بحجة "الفظائع" التي يتعرض لها المسيحيون على أيدي المسلمين، ولم يُخفِ آنئذ حلمه بأن تحتل روسيا القسطنطينية لتعيدها مركزًا عالميًّا للمسيحية الأرثوذكسية، وكان هذا الموقف لدستيوفسكي مناقضًا لموقف مواطنه ليف تولستوي، أيقونة الأدب العالمي الأخرى.

وسواء كانت مواقف دستيوفسكي مبدئية أم غير ذلك، مُقنعة أم مثيرة للجدل، مقبولة أم مرفوضة، فإنه يبقى واحدًا مِنْ أهم مَنْ أثّروا في أدباء العالم، من فرويد إلى جيمس جويس إلى توماس مان إلى هيرمان هسه، ومن أندريه جيد إلى ويليام فوكنر إلى أرنست هيمنغواي إلى ألبير كامو إلى بوريس باسترناك، ومن جان بول سارتر إلى إلكسندر سولجنيتسين إلى هاينريش بول إلى جوزيف برودوسكي إلى نجيب محفوظ. دون أن ننسى الجنوب أفريقي جون ماكسويل كوتزي الحائز على جائزة نوبل عام 2003 الذي جعل دستيوفسكي بطلًا لإحدى رواياته الشهيرة ("معلم بطرسبرج")، والذي كتب ذات مرة: "إذا شاء المثقف أن يضطلع بدور ما في سياسة بلده الخارجية فعليه أن يقوم بدور حمامة السلام المتسمة بالحكمة والرصانة والقدرة على إسداء النصح للسياسي، ليس من مثقف يتقمص دور إله الحرب مارس ويشعل الحروب أو يحرض على تخريب علاقات بلاده مع بلد آخر، دور المثقف الأخلاقي يكمن في تحسين أوضاع عالمنا وإيقاف التدهور إن استطاع إلى ذلك سبيلا".