«نلعب الشطرنج أحيانا... ولا نأبه للأقدار خلف الباب»

03 يونيو 2023
03 يونيو 2023

للوهلة الأولى فإن كلمات محمود درويش التي أرفعها عنوانا لهذه الكتابة تثير فيَّ ذلك الإحساس العام بجو من الرتابة المعبأة بالدخان، هناك في مقهى ما بزاوية نائية من مدينة مكتظة، حيث يتسلى شخصان بائسان بتحريك الأحجار على رقعة الشطرنج كمحاولة يبذلانها دفاعا عن بقايا الأمل من فداحة الملل والعطالة. أو لم لا أتمادى قليلا لأتخيل زوجين مُحاصَرين في شقة صغيرة محاصرة بفعل حرب أهلية تحدث في الخارج أو وباء جديد يجتاح المدينة، بينما يحاولان تزجية الوقت بحوار صامت داخل ذلك الفضاء الهندسي المحصور في أربعة وستين مربعا مفتوحا على جبهتين.

الأقدار لا تدخل معنا حين ندخل إلى رقعة الشطرنج، بل تبقى دائما على حيادها خلف الباب كما في اقتباسنا من محمود درويش. أما الحظ، التسمية الأخرى المعادلة للقدر، فلا أثر له في مجريات هذه اللعبة التي لا تعترف سوى بما يقترحه العقل الخالص من حُلول وأنماط ونقلات محسوبة الأبعاد، تجعل من نسبة الحظ صفرا في المائة أثناء اللعب. ففي الشطرنج كما في الرياضيات؛ يُعبِّر العقل البشري عن نضاله الأبدي ضد الاحتمالات الكونية المفتوحة باسم الحظ والقدر بتطوير رصانة القياس ودقة الحساب.

خلف الباب تحدث الحرب وتصعد الدول وتنهار، ولكن ماذا يهم كل ذلك ما دام الملك على الرقعة منيع القلب، وحصينا من ثغرة قاتلة في جدار البيادق؟! كان فرناندو بيسوا، الشاعر البرتغالي المعروف، قد كتب في «أناشيد ريكاردو رييس» قصيدة خالدة عن الشطرنج. تتحدث القصيدة عن شخصين في بلاد فارس وهما مستغرقان في لعب الشطرنج «تحت الظلال الصديقة» بينما كانت المدينة تشتعل حربا وعويلا خلال الغزو، غير أن اللاعبين يواصلان انهماكهما الشيِّق في اللعب، بلا اكتراث للمدينة التي تتهاوى من حولهما، ودون أن ينتبها لما يرفعه التاريخ أو ينكِّسه من أعلام خارج حدود تلك المربعات التي تشبه حلم يقظة ملون بالأبيض والأسود:

«عندما يكون ملك العاج في خطر، أيُّ أهمية تبقى للحم وعظام الأخوات والأمهات والأطفال؟

عندما يعجز البُرج عن تغطية انسحاب الملكة البيضاء هنا،

فأيُّ أهمية للنهب هناك؟».

هذان اللاعبان في قصيدة بيسوا، الساهيان عن الحرب داخل حربهما المجازية على لوحة الشطرنج، يُحيلاني فورا لتذكر مباراة القرن العشرين الشهيرة، التي جمعت البطل الأمريكي بوبي فيشر بنظيره الروسي موريس سناسكي، في آيسلندا عام ١٩٧٢، تلك المباراة التي روَّجت لها الصحافة العالمية ضمن الكواليس الرياضية - السياسية للحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي. في ظل تلك الأجواء التي سبقت المباراة، وما رافقها من ملابسات حرب الجواسيس وعمليات التنصُّت الخفية، كان التوتر والترقب قد بلغا أعلى مراكز القيادة السوفيتية. كان اللاعبون السوفييت حريصين على تأكيد سمعتهم كأسياد تاريخيين للعبة التي ارتبطت دائما بعبقرية الأمة وماضيها الثقافي اللامع بالرموز الفكرية والمواهب الأدبية، ذلك الإرث العريق الذي تشرَّبه سناسكي ليبدو أكثر ثقة في كسب المباراة/ الحرب خلال أول جولتين. بينما جاء بوبي فيشر إلى المواجهة مُعززا بمكالمة هاتفية من هنري كيسنجر، وزير الخارجية الأمريكية آن ذاك: «نريدك أن تذهب إلى آيسلندا لتهزم الاتحاد السوفيتي»!

اليوم، بعد نصف قرن على ذلك الحدث التاريخي، الذي تداخلت فيه كتابة المأساة والملهاة، فإن جميع عشاق اللعبة يعرفون كيف سار كل شيء: بوبي فيشر يدخل المباراة متأخرا بعد ست دقائق من افتتاحية سناسكي، يستعيد توازنه بعد جولتين خاسرتين أمام المعسكر الشيوعي، قبل أن يُبطل احتكار الروس للعبة ويقهر خصمه العنيد على طريقة الأبطال الخارقين في السينما الأمريكية، أولئك الذين ينتزعون الانتصارات من فم الوحش في اللحظات الأخيرة. ولكن هل يمكن أن تكون عودة بوبي فيشر لبلاده ببطولة العالم للشطرنج الأولى في تاريخ أمريكا أشبه بنبوءة انتصار العالم الرأسمالي وانهيار «الفردوس الشيوعي» مطلع تسعينيات القرن الماضي؟ لقد كانت لحظة تاريخية سانحة ليتنفس فيها البطل الأمريكي بكلمات بيسوا:

«ما نأخذه من هذه الحياة

ليس بأفضل من ذكرى مباراة

كسبناها أمام لاعب جيد».

إن مطالعة سريعةً لما كُتب عن طفولة بوبي فيشر وشغفه الباكر بالشطرنج ستجعلنا نتوقف مرارا عند صورة «الطفل العبقري» أو «الطفل الظاهرة»، في حالة من الهوس المرضي تتردد في الثنائية التقليدية بين العبقرية والجنون. النموذج نفسه الذي شاهدناه مؤخرا في مسلسل «مناورة الملكة» الذي تعرضه منصة نتفلكس منذ 2020؛ فاليتيمة الصغيرة «بيث هارمون» ستكتشف الشطرنج في قبو الميتم من خلال مراقبتها لعجوز غريب يُحرك القطع وحيدا ويباري نفسه في العتمة. المثير في حالة بيث أن الحرمان كان سر عبقريتها النادرة؛ أي حرمانها من امتلاك أحجار لعب ورقعة شطرنج خاصة، ما قادها لحفظ الرقعة ورسمها في خيالها على سقف الغرفة، حتى أصبحت الشطرنج مادة لأحلامها في النوم واليقظة. غير أن لقب «الطفلة العبقرية» سيظل يلاحقها حتى مرحلة المراهقة، كما ستعاني من ذكورية اللعبة في المجتمع الأمريكي.

أما الروائي النمساوي ستيفان زفايغ فسيقدم لنا، قُبيل انتحاره بفترة وجيزة، نموذجا آخر للعقلية التي تحترف الشطرنج في روايته «لاعب الشطرنج» التي ذاعت منذ نشرها في سنوات الحرب العالمية الثانية كواحد من أهم الأعمال الأدبية المستوحاة من «اللعبة الملكية». لكن اليوغسلافي الصغير «ميركو كزنتوفيك» بطل رواية زفايغ لم يكن يتمتع بالعبقرية الشائعة عن أبطال هذه اللعبة، بل لطالما كانت فرادته في كسله الفكري وعقله الذي يشبه «جوهرة يتيمة يلفها غشاء يزن مائة كيلوغرام»! فضلا عن سطحيته وجهله المغلف بالصمت، ما أعيا أمكر الصحفيين عند استنطاقه من أجل جملة مفيدة صالحة لمقالاتهم.

وبصرف النظر عن الغباء والذكاء وتدرج أطيافهما، وبصرف النظر عن ثنائية الجنون والعبقرية، التي تحولت مع الوقت إلى صورة نمطية في التعامل مع «المبدع الظاهرة» في أي مجال إبداعي أو مدخل دائم للتحليل النفسي، أستطيع القول إن التحرر من استبداد الصدفة، الذي ألمح إليه زفايغ في وصفه لفرادة الشطرنج مقارنة بمختلف الألعاب التي جربها الإنسان، لهو السر الذي يجعلني أكتشف كل يوم سرا جديدا من أسرار هذه الرقعة التي تتحول فجأة إلى متاهة في حديقة سرية داخل العقل البشري. وسأختار الشطرنج دائما كلعبة مثالية ليمر الوقت سريعا في كهولتي القادمة.

سالم الرحبي شاعر وكاتب