قانون منع وسائل التواصل الاجتماعي
16 ديسمبر 2025
16 ديسمبر 2025
عندما سافرتُ إلى دولة أوربية، وأردتُ استخدام تطبيقات الذكاء الاصطناعي مثل شات جي بي تي، وجيمني، طُلب مني التحقق من أن عمري يتجاوز الثامنة عشرة، وذلك عبر إرفاقي صورة لبطاقة الهوية، ثم مطابقة وجهي أثناء التصوير عند تقديم الطلب، كنتُ بالفعل مشتركة في هذه التطبيقات وأدفع شهريًا مقابل الحصول على الخدمات التي تقدمها، مع ذلك وللمرة الأولى يطلب التطبيق وفقًا لشروط الدول الأوربية التحقق من عمري.
أثير هذه القصة، مع القرار الذي صدر في أستراليا الأسبوع الماضي بحظر وسائل التواصل الاجتماعي عن المستخدمين دون سن السادسة عشرة. وبهذا فقد خسر الأطفال حساباتهم في اكس وانستغرام ويوتيوب وتيك توك وغيرها. بادرت التطبيقات بإلغاء حسابات المستخدمين لهذه التطبيقات فعلًا ذلك لأن السلطات الأسترالية فرضت غرامة تصل إلى خمسين مليون دولار أمريكي على التطبيقات التي لا تمتثل للحظر بالإضافة لقوانين صارمة تتعلق بحظر استخدام VPN والتحايل للوصول لهذه المنصات.
لقي قرار أستراليا هذا القبول من دول أخرى، بل إن بعضها أعلنت بالفعل تبنيها لقرار الحظر الشامل هذا منها ماليزيا والدنمارك والنرويج، كما أصدر الاتحاد الأوربي قرارًا بفرض قيود حول ذلك فيما أعلن السلطات البريطانية عن مراقبتها ما يحدث في أستراليا ودراسته، وذلك بحسب صحيفة الغارديان في تغطيتها للخبر.
ما من داع يتطلب لإثبات تأثر الأطفال بهواتفهم المحمولة، وعوضًا عن استدعاء الأرقام والدراسات الأكاديمية المرتبطة بهذه الظاهرة، فلنتأمل الأطفال من حولنا، أبناؤك، أخوتك، مثلًا، هل تتذكر ما الذي كانوا يفعلونه في آخر اجتماع عائلي، هل حضروا الاجتماع أصلًا؟ ما الذي يفعلونه في مشوار الخروج لمطعم ما وأثناء مشاركتهم في المشي على الشاطئ؟ لا أشك بأن مجرد التفكير بهذه المسألة يثير ذعرًا لا حدود له.
تعتقد بعض العائلات أنها تفرض قيودًا صارمة على الأبناء فيما يتعلق بعلاقتهم بالهواتف والإنترنت، بالإضافة لاشتراكهم في خدمات «لفلترة» المحتوى ومراقبته. ما زلت عند رأي في أن هذه مشكلة كبيرة أيضًا إذ إنها ستسبب في اغتراب الأطفال عن أقرانهم، لكن الحظر الشامل وفقًا للقانون الذي تفرضه الدولة سيحل هذه المسألة ويتعامل معها. أما عن مراقبة نشاط الأولاد عبر خدمات التطبيقات للأبوين، فهي بالنسبة لي مضحكة، إن أهم ما يميز أطفال هذه المرحلة هي قدرتهم تجاوز كل هذا، وإيجاد ثغرات للتعامل معه، بطريقة لن تستطيع متابعتها مهما فعلت. تمامًا مثلما تجاوزنا حظر قنوات التلفزيون في مرحلة ما، أنا شخصيًا كنتُ أحملها في كل مرة وأعيد حذفها بينما يظن أبي أنه باللجوء لعامل متخصص في هذا قد حظرها للأبد.
ملاحظة سلوك الكبار سيكون مرعبًا أيضًا فيما يتعلق بعلاقتهم بوسائل التواصل الاجتماعي، هنالك زوجان تأنقا من أجل إيجاد فسحة في ظل حياة يومية مرهقة في التعامل مع الوظيفة ثم رعاية الأبناء، سيختاران بالفعل مطعمًا مميزًا، وما إن يصلا لهناك، سيصوران كل شيء حتى الوجبة التي سيتناولها كليهما، ربما سيطلب أحدهما إزاحة جسمه قليلًا لكي لا يظهر في الصورة، وفور أن ينتهيا من هذا، سيمسك كل منهما هاتفه ولن يرفعا وجهيهما لملاقاة بعضهما. لطالما سألتُ نفسي، إذا كان الشخص الذي تحبه أمامك، من هو الذي تتواصل معه الآن؟ ثم هل يهمك أحد في العالم أكثر منه؟
مما دفعني هذا شخصيًا للتفكير بأن ما هو عكس هذا غريب، أختي وزوجها وهما في العشرينيات لا يستخدمان الهاتف لا بقرار منهما كما تقول عندما سألتها، حدث ذلك بشكل بديهي، بدا سؤالي غريبًا، إنهما يخرجان كثيرًا، يجربان مقاهي عديدة، يفاضلان بين تحميص القهوة في هذا المقهى عن آخر ينافسه، يذهبان للشاطئ، يفرشان «حصيرًا» ويجلسان في مقابلته، ويتحدثان. أنا أمتأكدة بأن هذا مفاجئ للكثيرين إذ يطل سؤال «ما خلصن السوالف؟»
يناقش كتاب «من داخل السراب : آفاق رقمية للفيلسوف بيونغ شول هان. وجودنا داخل الحياة الرقمية، فيقتبس في أحد فصول الكتاب عن حنة أرندت فكرتها عن تحقق حركة التاريخ عبر «الفعل»، أي القدرة على خلق بداية جديدة، على أن تحمل هذه البداية وعدًا جذريًا، مشيرًا لملاحظة أرندت بأن البعد الخلاصي لهذا الفعل يوجز في إعلان الإنجيل عن «البشرى السعيدة» والتي تعني « لقد ولد طفل لنا.»
يسأل بيونغ شول هان، عما إذا كنا نمتلك إمكانية تحقيق هذا الفعل الجذري اليوم؟ فمع رزحونا تحت رحمة العمليات الآلية على نحو كامل يبدو أننا لا نستطيع كسر هيمنتها فلا تتحقق هذه الولادة. يكتب: «هل ما زلنا ذواتًا قادرة على اتخاذ القرارات لنفسها؟ ألم تشكل الآلات الرقمية والرأسمالية تحالفًا خارقًا يقضي على حرية الفعل بأكملها؟ ألا نعيش اليوم في زمن الموتى الأحياء الذي لا تنتفي فيه القدرة على الإتيان بمولود جديد، بل يغدو فيه الموت مستحيلا».
لطالما خفتُ شخصيًا من أن الدعوة لمجابهة التقنية تنطلق من أيدلوجية «محافظة» إذا ما تأملنا من حولنا أيضًا سنجد المحافظين واليميين يشيرون لمشاهدة الأطفال للإباحية، أو الخيانات الزوجية، أو تحرر المرأة وعلاقتها بوسائل التواصل الاجتماعي. هذا مقلق بالنسبة لي. أطل السياسيون في العالم العربي بعد الربيع العربي لتعليمنا عن خطورة هذه المنصات، ومصيرنا عند استخدامها.
بيونغ شول هان يستعير في المقابل رؤية تنبؤية لفلاسفة لا ينطلقون من الموقف المحافظ ، أحدهم براغ فيليم فلوسر الذي يرى أن الإنسان المسلح بالرقمية اليوم يعيش حياة لا مادية وذلك مع أسماه «ضمور يدوي» مما يعني التحرر من عبء المادة، وبدلًا من الأيدي سيستند الإنسان على أصابعه بحثًا عن المتعة والمرح، فلن يتم تعريف الإنسان بوصفه فاعلًا بل بوصفه لاعبًا.
يعلق بيونغ شول هان بأن فلوسر يتجاهل عدم توفير الحياة الرقمية للهدوء والراحة، فاللاعب هنا يستغل ذاته حتى تدميرها وبدلًا من النظرة المزعومة للتخلي عن الأيدي في كونها مرحلة تحررية، فإنه يربط الإنسان بالأداء المستمر إذ لا فراغ فيه، مما يعني ركضًا مستمرًا نحو الإنجاز الذي يعني الرضوخ للاستغلال. طبعًا هذا الرد مختزل عن شول هان، وهو واحد من بين ردود عديدة على فلوسر. ما يهمني هو أن سؤال التفكير في الحياة الرقمية ليس حكرًا على المحافظين بل أنه يتجاوزهم لمناقشة تشفير ممارسة العيش في الحياة الرقمية داخل المناخ الأوسع لمنظومة استغلالية متطرفة.
يشير بيونغ شول هان في موقع آخر في الكتاب لخطورة الحياة الرقمية على المستوى السياسي إذ إنها ومع المراقبة الرقمية أتاحت قراءة الأفكار والتحكم فيها، وحلت هذه المراقبة محل النظام البصري المرتبط «بالمنظور للأخ الأكبر» فتتولى السياسة النفسية الرقمية السيطرة على السلوك الاجتماعي للجماهير وتتحكم في المنطق اللاواعي لديهم، وبهذا فهي تتخذ توجها شموليًا «يسلمنا إلى البرمجة والتحكم».
تتدخل الحياة الرقمية إذن بشكل مباشر وغير مباشر في فاعليتنا السياسية، وهي تستبعد بعضنا، وتعزز من وجود بعضنا الآخر. كما تدفعنا للتطبيع مع ما تنتجه الشركات والأنظمة التي تمتلكها من أجندة مهما كانت، حتى وإن ظهرت بشكل ناعم عبر هذه الوسائط.
علينا أرجوكم أن نفكر في هذا، وبدلًا من البحث عن حلول ترقيعية، أو إدخال «الذكاء الاصطناعي» في دراساتنا وصحفنا بسلبية كما هو واضح في بلدنا، ينبغي أن نناقش قوانين على مستوى الدولة في شكل اشتباكنا وتورطنا بها، كانت القنبلة النووية قيد التطوير في ظل أنظمة راقبت وجودها بل وبشرت بها، إذ إنها من بين ما ستفعله ستكون رادعًا عن الحروب لكننا اليوم نخاف أن تنفجر من جهة وتستغلها الأنظمة التي تمتلكها في ذلك. ماذا لو قطعنا هذا الطريق حتى مع الوعود التي يقدمها بتسهيل حياتنا، والدخول في مرحلة بشرية جديدة تمامًا مثلما حدث في زمن الثورة الصناعية، ماذا لو أننا قررنا أن نوقف هذا السعار ونقول إن ما لدينا الآن يتطلب معالجةً واضحة بدلًا من الدخول في عالم جديد يعززها كما تقول كل التنبؤات.
أريد حقا أن نفكر في مسألة منع الأطفال من وسائل التواصل الاجتماعي بقرار سياسي، وأن نتخذ خطوات حقيقية للتفكير في علاقة الكبار بها، عبر برامج فاعلة ينخرط فيها هؤلاء الكبار للتفكير في ورطة عيشهم هناك، في هواتفهم.
