من عاش بمدح الناس مات بذمِّهم!

23 مارس 2024
23 مارس 2024

«من عاش بمدح الناس مات بذمهم، بكرا تقلبوا عليّا تاني»، هكذا غرد الإعلامي المصري باسم يوسف بعد أن رأى وقرأ وسمع طوفان الإشادات به والمديح له من الجمهور المصري والعربي بُعَيد ظهوره الأول في برنامج الإعلامي البريطاني الشهير بيرس مورجان «بلا رقابة» في أكتوبر الماضي، ذلك الظهور الذي قلب فيه باسم الطاولة على المذيع والضيف الآخر؛ جيرمي بورنج الشريك المؤسس والرئيس التنفيذي لمنصة ديلي واير المحافظة ذات التوجه والتوغل اليهودي، واستطاع أن يوصل للجمهور الغربي معاناة الشعب الفلسطيني بذكاء شديد، بتحويله الحوار برمته إلى نوع من الكوميديا السوداء، الأمر الذي جعل الحلقة الأكثر مشاهدة في تاريخ البرنامج حينها بأكثر من عشرين مليون مشاهدة. عكست تلك التغريدة خبرة باسم بالجمهور العربي الذي لا يُؤمَنُ جانبه، ويفضِّل دائمًا دغدغة عاطفته على مخاطبة عقله.

تذكرت تلك التغريدة وأنا أتابع هذه الأيام تحوُّلَ الطبيب العُماني أيمن السالمي إلى ترند من جديد في وسائل التواصل الاجتماعي، بعد نحو شهر من تحوُّله إلى «ترند» للمرة الأولى في حياته، ولكن شتان بين «الترندين». في المرة الأولى كان السالمي بطلًا عُمانيًّا حمل روحه على كفِّه ليساهم بخبرته المهنية في تخفيف معاناة المصابين في حرب الإبادة على غزة، حيث كان يُجري ما لا يقل عن عشر عمليات يوميًّا في المستشفى الأوروبي بغزة لمدة أسبوعين حاول تمديدهما ليواصل هذه المهمة الإنسانية ولكنه لم ينجح. وظل الناس يتابعون أخباره أولًا بأول ويعيدون تغريد صوره مع أطفال غزة الذين يلاعبهم ويشاكسهم في أوقات الاستراحة القصيرة من العمل المضني، كما أعاد أكثر من ألفَيْن ومائتَي مغرد تغريد إشادة سماحة الشيخ أحمد الخليلي مفتي عام سلطنة عُمان بــ«الخطوة الجريئة التي خطاها الدكتور أيمن السالمي، الذي انطلق متوكِّلًا على الله تعالى إلى أرض المعركة في غزة العزة، لأجل إسعاف إخوانه هناك»، بل ودعوة سماحته أن يحذو الأطباء ممن تسمح ظروفهم وأحوال عملهم حذوه. كل هذا كان في الترند الأول. فماذا حدث في الترند الثاني؟

في جلسة حوارية مع منصة «جلسة كرك» بثت الأسبوع الماضي تحدث السالمي ردًّا على أحد الأسئلة أنه خلال اختلاطه ببعض أهل غزة خلال ذينك الأسبوعين وجد أن هناك من يلوم حركة حماس على ما جرى خلال هذه الأشهر الستة وكان يتمنى لو أن الأمور لم تسر على ما سارت عليه، وهناك على الضفة الأخرى من لا يلومها، وسعيد أنها تمكنت من إلحاق الأذى بالعدوّ المحتل. هذا التصريح بما شاهده وسمعه أثار غضب كثيرين عليه، وتحوّل فجأة من «بطل كان يمثلنا جميعًا في أرض المعركة»، إلى «خائن»، و«عميل»، و«مخذِّل»، ورماه «مجاهدو الشاشات» بالحصى والكلام، ومَنْ لم يشتمه فقد اكتفى بتعبير: «ليتك سكتَّ» و«خليك في الشاش والمقصات والمشارط» في استهانة صفيقة بجهاد أيمن السالمي الحقيقي وتضحياته في غزة.

ليست المسألة هنا، هل أصاب الطبيب فيما قاله أم أخطأ؟ فمن البديهي أن يقول المرء كلاما يوافق رأينا مرة، ويخالفه مرات. ولكن المسألة هي في قبول الاختلاف. لم يعد كثيرون يقبلون سماع أي رأي مخالف لما يعتنقون، بل إن حكمهم على الشخص رهنٌ بهذا، فإن قال ما يوافقهم رفعوه إلى السماء، وإن نطق بما لا يحبون فهو في أسفل سافلين. إنهم يشبهون الدنيا في تقلباتها غير المفهومة، كما وصفها لنا الأثر القديم: «إذا حلت أوحلتْ، وإذا كَسَتْ أوكستْ، وإذا أينعتْ نعتْ... إلخ»، متناسِين أن لكل امرئ حقه في التعبير عن رأيه، ليس هذا فحسب، بل له الحق في الخطأ أيضا ما دام بشرًا يخطئ ويصيب، وهو ما عبّر عنه السالمي نفسه في معرّفه على منصة إكس: «دعني أضلّ، لي الحق في أن أضلّ لكي أعود أدراجي إلى الحق».

إن كثيرًا من هؤلاء الغاضبين، لا سيما من يتحدث باسم الدين منهم، كان بتعليقاته برهانًا ساطعًا على ما قاله السالمي في المقابلة: «التدين السائد في مجتمعاتنا هو تدين شكلي، واعتماد الإنسان في المقام الأول على التطبيق الشكلي للدين، أدى إلى نسيان أساس الإسلام وأساس الدين، وهو أن يسمو المرء إلى مراتب عليا بحيث يصبح إنسانًا حقيقيًّا يساعد أخاه في الدين أو في الإنسانية ويزيل الظلم عنه».

وبالعودة إلى الإعلامي باسم يوسف - الذي هو أيضًا طبيب- فإن المتابع له يعرف أنه لم يطلق تلك العبارة من فراغ، فقد ظلت علاقته بجمهوره هكذا منذ أن كان في مصر؛ يقول ما يوافق هوى الجمهور فيرفعونه مقامًا علِيًّا، ثم يقول ما لا يودون سماعه فيسقطونه في وحل الأرض. ويبدو أن هذا هو للأسف الطريق الذي على أيمن السالمي أن يسير فيه اليوم ولسان حاله: «من عاش بمدح الناس مات بذمّهم»!

سليمان المعمري كاتب وروائي عماني