مقدّمات لحروف من دم القلم
تُعدُّ مقدمات الكتب، من العتبات الأولى التي حدّد مفهومها المفكّر الفرنسي جيرار جينيت، في كتابه "عتبات" الصادر عام 1987، وتمثّل هذه المقدّمات، إلى جانب تصاميم الأغلفة، والإهداءات، والهوامش، وكل ما يحيط بالنص من خارجه، نصوصا موازية، تضيء النصوص الأساسية، والمعروف أنّ المقدّمات تعطي مفاتيح أولى لقراءة الكتب، فكاتب المقدمة يدوّن لمحة عامّة عن محتوى الكتاب،
ويعرض فيها أهمّ الأفكار المطروحة فيه، للتعريف به، وتُحفيز القرّاء على فهم النص الأصلي الكتاب، لتساعد في عملية تلقّي النص، وكلّما كان اسم كاتب المقدمة معروفا، أعطى قيمة ثقافية، وتسويقية للكتاب، حتى إن بعض المؤلفين يضعون اسم مقدّم الكتاب على الغلاف، كما فعلت الدكتورة موج يوسف في كتابها(المرأة الدينيّة - المرأة النسويّة: كشف مضمرات الخطاب السردي في ضوء علم اجتماع الأدب) عندما وضعت اسم د. عبدالله الغذامي الذي كتب مقدمة كتابها على الغلاف، اعتزازا منها بقيمته النقديّة والأكاديمية،
فهذه المقدّمة شهادة يستحقّ أن يوضع اسم كاتبها على الغلاف، جنبا إلى جنب مع اسم المؤلّف، وهذا ما فعلته في كتابي (من باريس إلى مسقط- رسائل عبدالرزّاق عبدالواحد) عندما وضعت اسم د. سعد التميمي كاتب المقدّمة على غلاف الكتاب، ليكون عتبة إلى جانب اسم صاحب الرسائل، والمؤلّف.
وقد اعتاد الموكل إليهم من شعراء وأدباء، كتابة مقدمات، لبعض الكتب، واعتاد أصحاب الكتب وضعها في الصفحات الأولى من الكتب، وينتهي أمرها، دون أن يفكّروا بجمعها، كونها تمثّل جهدا أدبيّا، لكنّ الكاتب (هيثم نافل والي) أدرك هذه القيمة، والجهد، فقام بجمع المقدّمات التي كتبها، في كتاب واحد حمل عنوان (للذاكرة تاريخ-مقدمات وكتب) الصادر عن دار المتنبي للترجمة والطباعة والنشر والتوزيع في ميونخ/ القاهرة ٢٠٢٢م، وضمّ الكتاب مقدّمات كتبها على مدى سنوات، فكانت الحصلة (٢٤) مقدمة كتبها لكتب صدرت في موضوعات مختلفة بعضها في الشعر، والفكر، والأديان، والسرد.
في الصفحة الأولى من كتابه، يورد الكاتب(هيثم نافل والي) إشارة قصيرة، يعرّف من خلالها بمحتواه، ذاكرا بأنّها مقدّمات كتبها بحروف من دم قلمه، بناء على طلب أصحاب تلك الكتب، كما يقول "فذوت أفكاري، واحترقت، صعدت بخورا، زحفت تتلمّس طريقها، لعلّها تكون حجر أساس"، وبذلك يعتبر المقدمة حجر أساس الكتاب، وعلى هذا الحجر يبني معماره الفكري، والإبداعي، رغم أن المقدّمات تكتب عادة بعد إنجاز الكتب، لكنه يقصد أساس الانطلاق للقارئ.
وفي هذه المقدمات يعرّف بالكاتب، وبموضوع الكتاب، وظروف كتابته، ليعطي القارئ فكرة عنه، ففي مقدمته لكتاب" الصابئة المندائيون بين الإنصاف والإجحاف" للدكتور بشير عبدالواحد يوسف، يقدّم تعريفا بالكاتب، فيذكر أنه يقيم في أوروبا، وقد التحق بجامعة بروكسل ليحصل على الدكتوراه في العلوم السياسية خلال (٢٦) شهرا رغم أنه مهندس متخصّص بعلوم الطيران، ثم واصل دراسته في لاهاي بهولندا، وبعد(٣٠) شهرا حصل على دكتوراه ثانية في الدراسات المندائية، واختير ليكون رئيس الجمعية المندائية في مدينة اسكلستونا في السويد، ويذكر أهمّ الصعوبات التي واجهها عند وضع الكتاب، وأبرزها شحّ المصادر التي تناولت المندائية، ولكنه لم ييأس، بل بذل جهودا كبيرة من أجل الحصول على المعلومة الدقيقة.
وليست جميع المقدّمات وضعها لكتب لمؤلفين آخرين، فقد ثبّت مقدمة روايته (الوهم)، التي حملت عنوان(الضغط لا يولّد في رحم الإبداع إلّا أجنّة ميّتة)، وفيها يسلّط الضوء على محطّات من تجربته، فلم يستسلم لكلّ المطبّات التي واجهته، وهو يسير في طريق الكتابة، ويبيّن سبب إصراره، فيقول: "عندي حلم أريد تحقيقه، فمن حقي أن أحلم، كلّ إنسان لابدّ له أن يحلم، الأحلام ما زالت مشروعة، يمكن اغتصاب أشياء كثيرة من الإنسان، لكنهم لا يستطيعون أن يسرقوا الأحلام" وفي مقدّمة روايته (سردار قاسم) التي كتبها بالاشتراك مع زوجته الكاتبة نهاية إسماعيل بادي،
يشرح ظروف كتابة الرواية، والدافعيّة التي تقف وراء ذلك، فيقول" لكي يسطع نور الحقيقة من عتمة الزيف، والخداع، كان لابدّ لنا من تدوين روايتنا" التي تتحدّث عن إنسان أراد أن تحلّق الحرية بسماء بلاده دون تبعية واستعباد،
ويستعير مقولة للكاتب الروسي(جوجول) هي"إن الله خلقني ولم يخفِ عني سرّ الحياة" ويشير إلى أنّه استلهم أحداث الرواية من أحد أقارب بطلها، وهو من أبرز الشخصيّات السياسية في تاريخ العراق الحديث، وللوقوف على صدق الوقائع التاريخية استند إلى عدّة مصادر، وكان يقف على مسافة بعيدة منها عند كتابتها مع زوجته (نهاية).
مقدّمات أخرى كثيرة سلّط من خلالها الأضواء على كتب أخرى مفيدة للقارئ، فكانت بمثابة ملخّصات، تعطيه انطباعات عن كتب دوّنها بدم القلم.
