مخترعاتهم .. ودهشتنا

04 ديسمبر 2021
04 ديسمبر 2021

في يوم من أيام1801، وبينما كان الدبلوماسي والمؤرخ البريطاني السير جون مالكوم على متن سفينته في مسقط ومعه بعض العُمانيين، شرع يدقق النظر في تلسكوب جلبه معه في رحلته إلى عُمان. طلب منه أحد العُمانيين أن يجرب هذا التلسكوب فأعطاه بترحاب شديد. أمعن الرجل النظر في الجهاز لدقيقة ثم حدق في مالكوم باهتمام شديد، ومن دون أن يتفوه بكلمة اندفع إلى جانب السفينة ونزل منها إلى قارب وتحرك به لمسافة قصيرة، وبعد أن اطمأن إلى ابتعاده عن السفينة صرخ في مالكوم: "أنتم سحرة، وأنا الآن أرى كيف تحتلون المدن"، وأضاف مشيرًا إلى التليسكوب: "إن هذا الشيء يجعلكم قريبين كما يحلو لكم، مهما كنتم بعيدين". ومضى في طريقه هاربًا من "الساحر" الذي قابل ذلك بابتسامة ساخرة.

هذه الحكاية التي نقلها عن مالكوم الباحثُ العُماني صالح البلوشي في كتابه "مسقط وعُمان في كتابات الرحالة والمستكشفين" أعادتني إلى حكاية أخرى سردها لي الأستاذ أحمد الفلاحي عام 2006 في البرنامج الإذاعي "حوارات ثقافية" عندما أحضر الشيخ محمد بن عبدالله السالمي (الشيبة) الراديو لأول مرة إلى بدية في منتصف القرن العشرين، وكيف أن عددًا من الأهالي استنكروا الأصوات التي تخرج من ذلك "الصندوق العجيب" واعتبروها أصوات الشياطين، وذات مرة ذهب عدد منهم لزيارته وطرقوا الباب فناداهم الشيخ محمد أن تفضلوا، لكنهم رفضوا الدخول قبل إزاحة الصندوق/الشيطان ليستطيعوا الجلوس، وعندما رفض إزاحة الراديو غضبوا وذهبوا عنه وهم يتمتمون: "ابن الشيخ نور الدين ويترك الشيطان في بيته ويستمع إليه"!.

الرابط في القصتين هو دهشة المرة الأولى، تلك الدهشة التي تجعل المرء منتشيًا إن أعجبه الأمر الجديد الذي رآه، وخائفًا أو غاضبا إن لم يعجبه. كل جديد مثير للدهشة، بل والرفض أحيانًا. وما إن يمر عليه بعض الوقت حتى يلقى القبول ويصبح أمرًا عاديّا. كل من يندهش يحاول أن يفهم، وأن يفسّر الأمر الذي أدهشه. في البلدان التي تُولي للعِلم عناية فائقة لا تُفسَّر الدهشة إلا بالعلم والمعرفة، بل وبالفلسفة التي هي محرّمة في بلدان أخرى لم يأخذ العِلم حظه فيها من الاهتمام. من هنا نفهم تعليق مالكوم الذي لا يخلو من نبرة "استشراقية" بغيضة على اتهام ذلك العُماني له بالسحر: "لقد استمتعنا كثيرًا ببساطته. ولكن لا توجد حجج كافية لإقناعه بالعودة لتلقّي دروس في علم البصريات بعد افتراضه أننا بارعون في السحر الأسود."

أما في العالم الثالث حيث تتفشى الأمية في كثير من بلدانه، وتغيب العلوم التطبيقية الضرورية للحياة، فإن الناس يفسّرون دهشتهم بالأساطير والماورائيات، ولطالما سمعنا من يُردد بيقين جازم أن فلانًا ممسوس بالجن، لمجرد أنه يعاني من اكتئاب أو حالة نفسية سيئة أو هلاوس. هذا على الأرض، أما في السماء فقد فسّروا خسوف القمر بأنه مريض!.

يبقى أن الزمن وحده هو الكفيل بتحويل المُدهِش إلى عادي، وتاريخنا العربي الحديث مليء بمثل هذه القصص التي توثق دهشتنا الأولى أمام كثير من المخترعات التي أضحت اليوم أمرا عاديا: القطار، الطائرة، السيارة، الهاتف، الكُمبيوتر، التلِفزيون، المصعد، المسدس، الإنترنت، وعشرات غيرها. وها نحن اليوم نستعمل جميع هذه المخترعات، بشكل اعتيادي ودون أي اندهاش.