مثقفات في بلاط السلطان قبل أكثر من 100 عام

25 يونيو 2023
25 يونيو 2023

لم يكن حكم سلاطين البوسعيد في زنجبار إلا سلاما ورخاء وتقدما في جميع المجالات لا سيما المعرفية والثقافية وخاصة حينما افتتح السلطان برغش بن سعيد البوسعيدي المطبعة السلطانية في زنجبار عام 1882م، والتي قيل أن السلطان اشتراها بكامل عدتها من مطبعة الآباء اليسوعيين ببيروت، وحينما أدخل المطبعة إلى زنجبار اهتم بها اهتماما عظيما وجعل لها موظفين تحت إشرافه المباشر كالشيخ أبي مسلم البهلاني والشيخ يحيى بن خلفان الخروصي وغيرهم، مثلما أشار إليهم الباحث محمد العسيري في مقال بعنوان «المطبعة السلطانية بزنجبار»، وأصبح السلطان في بعض الأحيان يصحح بنفسه بعض الكتب المطبوعة ويوقع على ذلك في أغلب المطبوعات التي تصل إليه شخصيا لضمان جودتها.

هذه الانطلاقة سبقها بناء عظيم لوالده السيد سعيد بن سلطان البوسعيدي الذي جعل من زنجبار حقا أندلس العرب وقبلة للكثير من أجل التجارة والعلم والعيش الكريم، فجعل زنجبار هي الملاذ لأشهر علماء عمان كالشيخ ناصر بن أبي نبهان الخروصي وغيرهم.

ومن بعد ذلك واصل ابنه السلطان برغش استقطاب المفكرين والمثقفين العمانيين وأصبحت زنجبار الصفحة البيضاء الجميلة لدى العرب في العديد من المجالات لا سيما الفكرية.

تعاقب سلاطين زنجبار على الحكم والذي انتقل عقب وفاة السيد حمد بن ثويني إلى السلطان حمود بن محمد بن سعيد البوسعيدي الذي حكم من (1896 ـ 1902م)، هذا السلطان الذي كان مثقفا يحب الاطلاع كثيرا مما جعله في مصاف الحكام العرب الذين كانوا يدعمونه بكل قوة لإنشاء المجلات والمطابع والجرائد، بالإضافة إلى اهتمامه الشخصي بفتح خط المراسلات المباشرة بينه وبين أشهر المثقفين العرب في زمانهم مثل الشيخ محمد بن يوسف أطفيش، وجرجي زيدان، والشيخ محمد رشيد رضا، وحكمت شريف والعديد من لا أستطيع هنا حصرهم مخافة الإطالة.

أدهشني جدا ذلك الجهد المقدر الذي قام به الدكتور محمد المحروقي، والأستاذ سلطان الشهيمي ليصدروا لنا كتابا قيما لا يقدر بثمن يحوي أغلب مراسلات المثقفين والمثقفات العرب للسلطان حمود بن محمد وابنه السلطان علي بعنوان «مراسلات زعماء الإصلاح» الذي كان من إصدارات مركز الخليل بن أحمد الفراهيدي للدراسات العربية بجامعة نزوى.

حينما تتصفح هذا الكتاب ستدرك تماما كيف كانت سمعة زنجبار الثرية وسلاطينها بين العرب وكيف أن السلطان حمود في زمانه كان الداعم الأول للحراك الفكري في الوطن العربي، فهذه المراسلات مثال صغير على ذلك. هنا حاولت تسليط الضوء على مثقفات العرب اللاتي تواصلن مباشرة بالرسائل مع السلطان حمود، مثل أنيسة عطا الله الشامية مؤسسة مجلة المرأة في مصر، وروجينا عواد صاحبة مجلة السعادة، والكسندرا افيرينوه صاحبة مجلة أنيس الجليس.

ونرى هنا نموذجا للمراسلة التي كتبتها الشاعرة أنيسة عطا الله التي هاجرت من الشام إلى مصر فكانت تُرسِل أبيات شعرها مديحا في السلطان حمود وهو من يدعم ويتابع بكل اهتمام مواضيع مجلتها، فقالت بتصرف واختصار: «يرفع لمواطئ أقدام غرة جبين العليا وعماد الفضل والدنيا حليف المعالي وفخر الأيام صاحب السمو والاقتدار والافتخار مولاي حمود بن محمد بن سعيد سلطان زنجبار ومن والاها أدام الله بوجوده علاها..

حصن الأماني بالكون للملتجي .. فرد الزمان وكعبة الإحسان وقالت: أمليكنا هل غير شخصك يرتجى .. بين الملأ لنوائب الحدثان عن مصر القاهرة في 17 شعبان 1319 عبدة جلالتكم صاحبة مجلة المرأة أنيسة عطا الله».

أما روجينا عواد فقد كتبت للسلطان علي بن حمود: «لمعالي ولي نعمتي بلا امتنان قدوة السلاطين العظام بدر الفضل الأكمل وغوث الملك الأفضل وسيد القوم الأجل الحسيب النسيب صاحب الفوز والنبل مولاي وغوثي السلطان بن السلطان علي بن حمود بن محمد بن سعيد سلطان مملكة زنجبار المعظم أدام الله لنا شريف وجوده..

سيدي...أعرض لجلالتكم أنه وصلني اثنين جنيه الذي تفضلتم به علينا فإنني من المتشكرين لإنعامكم الثمينة فهذا ما لزم والله يحفظكم لنا على الدوام ودمتم..

صاحبة مجلة السعادة روجينا مدام عواد».

ولنتمعن هنا رسالة الشاعرة اللبنانية الكسندرا افيرينوه التي عاشت حياة مثيرة برحلاتها وأوسمتها وحراكها الفكري الأدبي الذي من خلاله نالت مقاما رفيعا مع بعض الحُكام والأمراء فقد كتبت للسلطان حمود بتصرف واختصار: «وصلني كتاب مولاي المعظم فتشرفت بلقياه وابتهجت بمرآه ورأيت المجد ماثلا لي بصورة مداده وبياض المعالي يلوح من بين سواده...ولقد كلفت قريحتي القاصرة خدمة سمو السلطان بهذه القصيدة أقدمها لأعتابه السامية تهنئة بعيد الأضحى السعيد...

العيد أنت لدى التحقيق والنظر .. توليه أضعاف ما يوليه البشر ومنك تستقبل الأعياد باسمة .. كما تبسم زهر الروض للمطر وهنا تطلب الكسندرا من السلطان أن يبعث لها بصورته فكتبت: «ثم إنني لما كنت قد تشرفت بمعرفة مولاي بما وصل إلي من سطوره واسمه فقد أحببت أن أتشرف أيضا بمعرفة شخصه الكريم ورسمه، فأرسلت طي هذا رسمي نائبا عني للتشرف بين يديه الكريمتين راجية من سموه إذا شاء أن يتكرم علي برسمه السامي فأكون قد حزت الشرفين ونلت الأمنيتين..

عبدة سموكم الكسندار مليادي دي افيرينوه»..

ما تشاهدونه هنا هي لمحات مختصرة جدا من حقيقة كالشمس لمكانة السلطان حمود البوسعيدي وابنه علي في دعم الحراك الفكري بكل الأقطار العربية وبشتى الطرق، فرحم الله تلك الأنفس وأدخلها فسيح جناته.

نصر البوسعيدي كاتب عماني