كلام فنون.. قضايا موسيقية

06 نوفمبر 2022
06 نوفمبر 2022

- الغناء المتقن:

في مقالي هذا (ومقالات أخرى تحت هذا العنوان)، سوف أناقش قضايا موسيقية متنوعة في سياق الفكر الثقافي العربي الإسلامي حسب الروايات التاريخية والنصوص التراثية وتطور تصوراتها تجاه الموسيقى والغناء ومكانتها في الحضارة العربية الإسلامية عامة وبلادنا الحبيبة سلطنة عُمان خاصة.

وفي هذا المقال تحديدًا اعتمد على كتاب الدكتور شوقي ضيف الذي يحمل العنوان «الشعر والغناء في المدينة ومكة لعصر بني أمية»، وقد اخترته نظرًا لأهميته البالغة في طرحه لمسألة الغناء والموسيقى وأشكاليتها انطلاقًا من المرحلة التأريخية المفصلية في الثقافة العربية الإسلامية.

وقد كانت تلك الفترة الزمنية عميقة الأثر في نشأة وتطور النشاط الموسيقي في ظل واقع ثقافي جديد ذات توجه إسلامي، ونشأة ما يعرف «بالغناء المتقن» في مكة والمدينة الذي وصل في العصور العباسية إلى أوج التطور النظري والفلسفي والتطبيقي، علمًا أن اقتصار أداء بعض أنواع الغناء كالإنشاد مثلا على بعض الآلات الموسيقية كالطارات (السماع) أو عدم استعمالها أحيانا هو فقط تقليد ثقافي تداوله الناس جيلًا بعد آخر واعتادوا عليه متأثرين بتصورات أيديولوجية.

إن هذا واحد من الكتب المهمة التي تخبرنا عن واقع الحياة الثقافية عامة والموسيقية في المدينة المنورة ومكة المكرمة تحديدًا في نهاية عهد الخلفاء الراشدين وبداية العصر الأموي، وهي مرحلة حساسة حيث قد يتخيل المرء أن عامة سكانهما من المتشددين تجاه ممارسة الغناء، وهي تصورات خاطئة تكونت فيما بعد نتيجة انحيازات أيديولوجية بسبب الصراعات على السلطة السياسية، وقد لخص لنا هذا الكتاب بعضًا منها اعتمادا على مصادر عربية إسلامية معروفة.

وقد كانت تلك المرحلة التاريخية أساسية في تكوين الثقافة العربية الإسلامية تنوعت فيها الآراء تجاه الممارسة الموسيقية حيث تبلورت ثقافة جديدة وأقبل الناس على المغنين بعد أن استقر أمر الدولة الجديدة في المدينة وتوسعت في عهد الخلفاء الراشدين، وتدفقت إليها الأموال وزاد دخول مواطنيها، كما قال الكاتب: «ونحن لا نترك عهد عمر إلى عهد عثمان حتى نحس بأن أهل المدينة تغيروا تغيرا كثيرا عما كنّا نعهدهم عليه من تقشف.. وكان أهل المدينة في يسار ونعمة طوال هذا العصر الأموي، بل كان كثير منهم ثريا واسع الثراء، وكان يقترن بهذا الثراء ضروب واسعة من الحضارة لم تعرفها المدينة من قبل هذا العصر».. وفي هذا السياق ينقل الكاتب عن كل من: ابن خلدون، وابن عبد ربه، وابن سعد وغيرهم فيقول إن أهل المدينة: قد «أخذوا بأسباب الحضارة الأجنبية ونعموا بملذات المطعم والمشرب، واتخذوا الدور والقصور، ولا نكاد نمضي في العصر الأموي حتى نجد أهل المدينة يضربون في الحضارة الأجنبية بحظ وافر، فعرفوا كثرة الألوان في الأطعمة وأكلوا في أواني الذهب والفضة»، كما عرفوا أنواعا كثيرة من الملابس الرجالية والنسائية وتفننوا في اقتنائها ولبسها، فتغيرت ثياب نساء المدينة وكذلك مع الرجال عما كان عليه الحال قبل ذلك.

ويُعرف عن أهل المدينة شغفهم بالغناء، ولهم في هذا قصص كثيرة، ولعل أشهر تلك الأغاني نشيد: «طلع البدرُ علينا» الذي ظل يردده الناس عبر القرون منذ قدوم النبي محمد صلى الله عليه وسلم إلى المدينة مهاجرا من مكة، وقد تكلمت عنه في مقال سابق في هذه الزاوية.

وكما ذكرت، فقد نشأ في هاتين المدينيتين المدينة المنورة ومكة المكرمة الغناء العربي الإسلامي المعروف بالغناء المتقن الذي كُتب عنه الكثير وعن مؤثرات الموالي الذين امتلأت بهم المدينة المنورة على أثر الفتوحات العربية في الشرق والغرب. وتكلم المؤرخون عن أسباب ذلك التأثير حيث قللوا من مكانة الغناء العربي القديم في نشأة الغناء الجديد، على اعتبار أن العرب بدو ليس لهم من الحضارة نصيب قبل تلك الفتوحات، وكأن العرب ليسوا على اتصال بها من قبل.

وقد قيل في هذا الشأن إن مهنة الغناء المتقن مارسها في الغالب الموالي والقيان، قبل أن يقبل عليها الخلفاء والأمراء من العرب أنفسهم في الدولة العباسية لاحقًا. لهذا نعتقد أن ذلك التعليل لم يكن دقيقا بالمجمل، على الرغم من قبولنا بالتأثيرات المتبادلة بين الشعوب كأمر طبيعي، وقد كان من العرب من هو متحضر أو بدوي، ونعرف العديد من مراكز ذلك التحضر، ووصلتنا منها بعض النقوش الأثرية الدالة على وجود آلات موسيقية، كما ذُكرت أنواع منها في الروايات التاريخية والشعر العربي القديم في جنوب الجزيرة العربية أو في وسطها وشمالها أو غربها وشرقها، ولعل من الكتب المهمة في هذا السياق إلى جانب كتاب الأغاني المعروف، كتاب «القيان والغناء في العصر الجاهلي» للدكتور ناصر الدين الأسد ...