كلام فنون: بشأن التأريخ للموسيقى العُمانية «1»

24 ديسمبر 2023
24 ديسمبر 2023

في ورقة عمل لي بعنوان: «مدخل إلى التأريخ للموسيقى العُمانية» قدمتها عام 2015م في ملتقى المؤرخين الموسيقيين العرب الأول في مسقط العامرة، اقترحت ثلاث مراحل لدراسة الموسيقى العُمانية والتأريخ لها وهي: عُمان القديمة، وعُمان الإسلامية، ثم عُمان الحديثة التي تبدأ من وجهة نظري مع تولي المغفور له السلطان قابوس بن سعيد -طيب الله ثراه- الحكم في عُمان عام 1970م. وباستثناء المرحلة الأولى (عُمان القديمة)، فإن التصنيفين الثاني والثالث شكلت ملامحهما تطورات سياسية كبيرة مقرونة برؤية فقهية أثرت تأثيرا عميقا على مكانة ودور الموسيقى والفنون عامة وطرق ممارستها. من هنا فإن المتابعة التحليلية والنقدية للخطاب الموسيقي لا تكتملان في اعتقادي دون النظر في تطور الخطاب الثقافي عامة والسياسي والفقهي خاصة وما تبلور في كل مرحلة من أسئلة وأجوبة تجاه مختلف المسائل الاجتماعية والفكرية.

من جهة متصلة لا يمكن الحديث حتى الآن عن شيء اسمه اقتصاد موسيقي ولا عن مساهمته في الناتج المحلي، ذلك أن هذه الصناعة الموسيقية التي نشأت مع المرحلة الإصلاحية لا تزال مثلها مثل باقي الصناعات الثقافية والفنية تعتمد اعتمادا كليا على التمويل والرعاية الرسمية للدولة، وهذا موضوع مهم وتطور أساسي في السياق التاريخي الذي أتحدث عنه وسوف أخصص له مقالا في الفترات القادمة إن شاء الله.

من هنا، فإن وصف المرحلة الثالثة بالإصلاحية ليس وصفا عاطفيا، بل يدل دلالة لا لبس فيها على عمق التغييرات الثقافية والفكرية والفنية التي نشأت منذ بداية هذه المرحلة مقارنة بالتي سبقتها. إن إنجاز البحوث والدراسات الموسيقية في أي مرحلة من تلك المراحل الثلاث أصبحت مطلوبة وحاجة معرفية، وتأذن بدخول طور جديد من النضوج البحثي التخصصي في العلوم الموسيقية.

في هذا المقال والمقالات التالية سوف أعرض تحت العنوان أعلاه أهم السمات الموسيقية وربما الثقافية والفنية كذلك التي اتسمت بها كل مرحلة من تلك المراحل، وما تميزت بها عن غيرها، على أمل أن أقف قليلا بشيء من التفصيل عند المرحلة الحديثة الإصلاحية، بسبب المعايشة وتوفر المعلومات.

تمتد المرحلة الأولى نحو أعماق التاريخ للوجود الإنساني ونشاطه الاجتماعي والثقافي، ولا حدود زمنية لها إلا بقدر ما تحدده الاكتشافات الأثرية وتقف عنده. وهذا العمق الزمني مهم لهذه المرحلة القديمة نظرا لعدم توفر المصادر المكتوبة عنها أو القدرة على تكوين صورة معرفية موسيقية بشأنها، من هنا فإن دراسة هذه المرحلة التاريخية تعتمد على نتائج علم الآثار العام وعلم الآثار الموسيقي، لإنها الفترة الأكثر غموضا في التأريخ الموسيقي العُماني ولا توجد معلومات حتى الآن جديرة بالاهتمام توثق لنشاط موسيقي قديم. وهذا بطبيعة الحال لا يؤدي إلى القول: إن القدماء ليس لهم فنون معينة في الوقت الذي يعتبر الغناء من أقدم الممارسات الثقافية للإنسان والمميزة له عن باقي الكائنات. والإنسان بقدر ما طور لغته المحكية تطور كذلك مهاراته الفنية وصناعة الأشياء.

والقدماء في معظم الحضارات لم يتركوا للأسف الكثير من الآثار الموسيقية، ولكن قدماءنا في هذا الشأن كانوا أكثر بخلا من غيرهم. وعلى كل حال يمكننا الاستفادة من نتائج علم الآثار ومتابعة دراسة المواقع الأثرية بشكل مستمر ودون كلل لعلنا نجد أثرا موسيقيا ماديا معينا أو مكانا ما قد خصص للممارسات الموسيقية العامة أو إن كان هذا الشيء يحظى باهتمام تلك المجتمعات. ولكن، ولتكوين مقاربة معينة من المهم في اعتقادي الاستفادة من تقييم علماء اللغات القديمة في حالة ما كانت هناك نقوش للغة معينة من خلال معاينة المفردات المستعملة ذات الصلة ومقارنتها بمعانيها ودلالاتها المتداولة في وقتنا إن وجدت، وملاحظة كذلك طرق وأساليب العيش، والصناعة، والعمران، وأنواع الملابس وصناعتها (إن وجدت) وتقدير المستوى الفني والجمالي لها. ومن الأهمية في هذا الشأن دراسة أنواع العبادات التي كانت تمارسها تلك المجتمعات العُمانية القديمة والرموز ذات الصلة بسبب الصلة المباشرة للغناء القديم بها. وقد أشرت في دراسات أخرى مثل كتاب: «الموسيقى العُمانية مقاربة تعريفية وتحليلية»، وكتاب: «من الغناء العُماني المعاصر» إلى أن بعض الكلمات المتداولة في وقتنا هذا وربما بعض الألحان التقليدية كذلك تحمل بصمات قديمة، ويمكن أن يكون لها تاريخ وصلات مع ممارسات غنائية قد تكون متصلة بأنواع معينة من أغاني العبادات منذ أزمنة غابرة ذات صلة بالأجرام السماوية والظواهر الطبيعية والطوطميات والرموز الحيوانية التي لا تزال آثارها موجودة في بعض المجتمعات. لهذا فإن دراسة هذه المرحلة تتطلب تضافر الكثير من الجهود العلمية لتكوين صورة معرفية معقولة عن ثقافة وفنون أسلافنا.

إن أبرز التحديات التي تواجه الباحث في هذه المرحلة التاريخية الغامضة هي استحالة معرفة اللغة الموسيقية والسلم الموسيقي المستعمل للقدماء العُمانيين ما لم نعثر على آلة موسيقية ويتأكد لنا أنها من صناعتهم أو مستعملة استعمالا حقيقيا وشائعا لديهم إن كانت مستوردة. ومن المعلوم أن الآلات الموسيقية يصنع معظمها من مواد لا تعمر طويلا وبشكل خاص القصب وأنواع الأخشاب. أما الآلات التي تُتخذ من المواد الثابتة غير المنقولة فقد تكون موجودة في بعض المناطق ولكن يحتاج اكتشافها إلى مجهود كبير. والآلات المصنوعة من قرون الحيوانات أو القواقع البحرية لا يزال نوعان منها يستعمل حتى وقتنا (البرغوم والجم)، وقد كتبت في دراسة منشورة سابقا (كتاب الموسيقى العُمانية) أن هاتين الآلتين يمكننا من الناحية النظرية اعتبار درجاتهما النغمية أقدم سلم موسيقي عُماني معروف لنا حتى الآن. واقترحت لتطوير هذه النظرية إدراج ألحان الأنماط الغنائية المتوارثة الأحادية والثنائية النغمات ومنها إلى الثلاثية وهكذا صعودا وصولا إلى السلم الموسيقي الكامل والشائع في الغناء المعاصر عندنا.

وللمقال بقية...

مسلم الكثيري موسيقي وباحث