كدم .. أقدم مدينة عمانية وأول تقرير عن توثيقها
في سعينا لاكتشاف الحضارة العمانية، ورغم أن البحث في بداياته، إلا أن استكشاف الأطلال والبواقي التي انمحى معظم قوائمها، أوقفنا على قدر لا بأس به من المعلومات عن أصول هذه الحضارة العريقة، مما أتاح أن نتبين بُعدها المكاني وعمقها الزماني، وعلى اكتمالها الحضاري في الألفية الثالثة قبل الميلاد، وأما جذورها فتمتد إلى حقب سحيقة. إن اتساع مساحتها الجغرافية يحكي قصة الوحدة الإقليمية للوطن العماني، حيث تشكّل سلستا الحجر الشرقي والغربي العمود الفقري لهذه الحضارة، وتنداح مدنها وعمرانها من جهتي الشمال والشرق باتجاه البحر، ومن جهتي الجنوب والغرب باتجاه الصحراء. هذا العمود الفقري.. أهّل أنظمة حكم عمان المتعاقبة عبر الزمن بأن تشكل دولة مركزية، امتدت علاقاتها ونفوذها إلى بعض السواحل الغربية للهند وفارس، وإلى السواحل الشرقية الإفريقية، وأن يكون لها حضورها الدولي.
حقّبتُ التاريخ العماني بستة أطوار كبرى، ثلاثة منها قبل الإسلام: طور ما قبل الألفية الثالثة قبل الميلاد. وطور تأسيس الحضارة العمانية الذي كان في هذه الألفية، ممتدًا حتى الميلاد، التي أسميتها لاعتبارات موضوعية «حضارة سلوت»؛ منها انتشار اسم «سلوت» ومشتقاته في عدة مناطق عمانية. والثالث.. من الميلاد حتى الإسلام. وأما الأطوار الأخرى؛ فهي: الأول: منذ دخول الإسلام في عمان حتى الاستعمار البرتغالي، والثاني: منذ قيام الدولة اليعربية حتى عام 1970م، والأخير: بدأ بالدولة الحديثة على يد السلطان قابوس بن سعيد (ت:2020م).
بحثنا يركز على طور التأسيس، وكان لابد من تحديد منطقة آثارية تمثله؛ لأن من العسير البحث والتوثيق في طول عمان وعرضها. وبعد زيارات متواصلة لأرجاء الإقليم العماني، بقصد المقارنة الحضارية، زرنا خلالها حوالي 15 موقعا آثاريا، منها زيارتان لدولة الإمارات العربية المتحدة، والباقي توزعت على محافظات السلطنة، وجدنا أن مدينة كدم هي الأمثل لذلك. تتبعنا المدينة التأريخية تتبعا شاملا متأنيا، وعرفنا مناطقها ومكوناتها الآثارية الباقية، فصنفناها بأنها ذات وحدة جغرافية وسياسية واجتماعية متآخية، تنتمي إلى نظام «مدينة الدولة»، وهي بحسب معلوماتنا حتى الآن أقدم مدينة متكاملة في عمان.
هذا تقرير.. بأهم المواقع التي اكتشفناها، وأبرز المعالم التي وثقناها. فكان أول أعمالنا استكشاف «معبد ني صلت»، والوقوف على أهم مكوناته، وتحديد مكانته في العالم القديم، والنتيجة المبدئية قدمناها في فيلم «ني صلت»، عام 2018م، مدته 7 دقائق، من إنتاج وإخراج حمد القصابي وعلي البيماني. وفي أواخر عام 2019م استضفنا عالم السومريات الليبي الدكتور عبدالمنعم المحجوب، حوالي أسبوع. اطلع خلالها على أهم ملامح حضارتنا القديمة، وكان الغرض من الزيارة الاستفادة من علمه في بناء مشاريع علمية حولها.
شتاء 2019/2020م.. تشكّل فريق عمل مني ومن الابن عبدالرحيم، لدراسة مدينة كدم، والوقوف على أهم عناصرها الحضارية. وأهم ما تم تنفيذه: استكشاف عام للمدينة، ولأهميتها التاريخية. ثم اكتشافنا السور المحيط بها لأول مرة، الذي يبلغ امتداده حوالي 26 كم، وكثير من أساساته ما زالت باقية. ثم حددنا أهم المناطق التي تكونت منها المدينة؛ مثل: المنطقة الإدارية، المنطقة الدينية، السوق، المنطقة الزراعية القديمة، المدرجات الزراعية الجبلية، السدود، الأفلاج، الكهوف، المحاجر، المستوطنات السابقة على الألفية الثالثة قبل الميلاد، قرى ما قبل الميلاد، المناطق الأثرية المدمرة؛ قديما وحديثا. لقد وقفنا على الرسمات الصخرية، وحددنا بعض رموزها، واكتشفنا كتابات مسندية قديمة. ثم قسّمنا كدم إلى «مربعات» بناءً على خصائصها الحضارية وعناصرها الثقافية، بغية توثيقها بإحداثياتها على الواقع.
تتبعنا تفاصيل «معبد ني صلت»؛ الذي يعني بيت الصلاة أو بيت الله، وحددنا بعض معالمه كالصخرة؛ قبلة المعبد، ومنطقة الاحتفالات الدينية، ومنطقة تقديم الأضاحي وكهوف حرقها، و»اللوحة التذكارية للأضاحي» من البقر. ورصدنا بعض الرموز التي نتوقع بأنها لآلهة؛ أعطيناها اسما بالمقارنة الجغرافية والمقاربة الحضارية، كإله القوة «سيت»، وإله الخصوبة «أب». وكذلك؛ قدّرنا نُصُبين صخريين متجاورين بأنهما إلها الخصوبة: الذكورة والأنوثة. ولوحة الفهد المنقّط، نُقرت على صفيحة الجبل المجاور للنُصبين. ووجود فهد منقّط في هذا المعبد؛ يشبه «معبد العقير» بالعراق خلال «فترة العُبَيْد» (5300-4000ق.م)، إذ يوجد به أيضا فهدان منقّطان. وحللنا رسمتين لسفينتين على جدار جبل مقابل صخرة «ني صلت» من جهة الغرب، نتوقع أنهما يمثلان سفن المتعبدين القادمين من خارج عمان.
خلال هذه المدة.. نشرتُ في جريدة «عمان» حول حضارتنا القديمة المقالات الآتية: «الاستلاب الحضاري في الثقافة العمانية»؛ 5 أكتوبر 2020م، و «وحش المحو ينهش حضارتنا»؛ 16 نوفمبر 2020م، و «كدم أقدم عاصمة لعمان»؛ 25 يناير 2021م، و»مقبرة مساجد العُبّاد.. أنثروبولوجيا»؛ 21 مارس 2021م، و»العيد نظرة في الجذور»؛ 24 مايو 2021م. ونشرتُ بحثا موسعا عن اللغة العمانية القديمة «لغة سلوت» في مجلة «لسان العرب»؛ التي يصدرها علماء في الحضارات القديمة.
شتاء 2020/2021م.. انضم إلينا: خالد الوهيبي في فريق البحث والتوثيق، وأحمد عارف لحفظ وتصنيف المادة الوثائقية رقميا. وقررنا أن نبدأ بتوثيق المنطقة الإدارية؛ وهي المنطقة الجنوبية من كدم، بسهولها وجبالها وأوديتها. قمنا بمسح شامل لها، فالتقطنا أكثر من 6500 صورة، حفظنا منها حوالي 4000 صورة بالإحداثيات الرقمية في ملفات مصنفة بحسب نوع الصورة: رسمة إنسان، رسمة حيوان، رسمة غير محددة، رسمة غير واضحة، كتابة، سور، برج، مدرجات، فلج، معبد، كهف، قبر، محجر، مستوطنة، موقع مدمر... الخ. ومن ذلك؛ أننا وثقنا 11 رسمة بشرية كبيرة، صنفناها بأنها لحكام كدم القدماء، وحوالي 20 خطاً مسندياً. وصورنا المدرجات الجبلية، وصعدنا جبالا شامخة لضرورة البحث والتوثيق، فوثقنا حوالي 30 قبرا برجيا «ركاميا»، وأكثر من 100 كهف، منها حوالي 10 كهوف للتعبد، ورصدنا بعض الظواهر كظاهرة «الكهف والحصاة».
عثرنا على معبد رئيسي كبير، نقدّر بأنه من الألفية السادسة قبل الميلاد، ووثقنا أكثر من 20 مستوطنة، بعضها في السهل، لم يبقَ منها إلا قطع فخارية مبعثرة وتجمعات حصوية مختلطة بأكداس ترابية. وبعضها الآخر على الجبال، وهذه أوفر حظا، إذ بقيت ملامح أطلالها. وتتبعنا بالتصوير الجزء الجنوبي من سور المدينة، مع أسوار المستوطنات. واكتشفنا شبكة الأفلاج القديمة، ويبلغ ما وثقناه منها حوالي 5 كم، منها ساقية رئيسية تنفذ من كدم إلى كيد، ومنها سواقي التوزيع في كدم نفسها.
اكتشفنا أن المنطقة الإدارية تشتمل على أقدم المستوطنات المأهولة في كدم، وقدرنا بأنها تعود إلى ما قبل الألفية الثالثة قبل الميلاد بحقبة طويلة. ثم اكتشفنا محجرَين، أحدهما قديم جدا، والآخر حديث نسبيا. قدرنا الأول بأنه لصنع الأدوات ذات الاستعمال اليومي كالسكاكين والمساحي والخناجر. وقدرنا الآخر بزمن اليعاربة، لتشذيب الحجارة التي بني بها فلج المحمود. وثقنا عشرات الرسمات الصخرية، بعضها لحيوانات مستأنسة كالبقر والغنم والجمال، إحداها رسمة متقنة لثور يمتطيه محارب يحمل بيده فأسا. والعديد من الظواهر التي لا زلنا نتأملها لنتمكن من تصنيفها.
ونشرتُ في جريدة «عمان» المقالات الآتية: «تقول أساطير بَهلا»؛ 10 نوفمبر 2021م، و «بحثا عن ألواح سلوت»؛ 20 ديسمبر 2021م، و «سور بَهلا.. مقاربة في النشأة والبقاء»؛ 13 مارس 2022م، و»البحث عن سلوت»؛ 17 مايو 2022م، و»سلوت.. والبحث عن أصول الحضارة العمانية»؛ 3 ديسمبر 2022م. وسنشرع بإذن الله في كتابة الجزء الأول من موسوعة توثيق كدم، ونواصل مع بدء هذا العام 2023م في مرحلة جديدة من البحث والتوثيق الحضاري فيها.
ختمنا هذه المرحلة بزيارة علمية لكدم، خلال المدة 26-28 ديسمبر 2022م، استضفنا فيها عالم الآثار العراقي الدكتور نائل حنون، وخبير التاريخ القديم للجزيرة العربية السوري الدكتور منير عربش، والباحث في الحضارة العمانية الدكتور حمد الغيلاني.
