فيديل ودييغو..صديقان في الحياة والممات

26 نوفمبر 2022
26 نوفمبر 2022

عندما توفي الرئيس الكوبي فيديل كاسترو عن تسعين عاما في مثل هذه الأيام من عام 2016م (تحديدا في الخامس والعشرين من نوفمبر)، كان صديقه دييغو مارادونا؛ اللاعب الأرجنتيني الأشهر، في زغرب، يتابع مباراة في كأس ديفيز للتنس بين بلاده وكرواتيا، وحين بلغه النبأ قال حزينًا: "إنه يوم رهيب، لقد اتصلوا بي من بوينس آيرس وصُدِمتُ"، مضيفًا: "لقد بكيت بلا حسيب ولا رقيب. أنا ذاهب إلى كوبا لأودع صديقي"، دون أن يعرف حينئذ أن ذلك "اليوم الرهيب"؛ أي الخامس والعشرين من نوفمبر، سيكون أيضًا تاريخ وفاته هو بعد أربعة أعوام، في مفارقة قدرية ذات مغزى جمعت الصديقين في الحياة والممات.

لأول وهلة لا يمكن أن يصدق المرء أن صداقة عفوية وغير مرتبطة بالمصلحة يُمكن أن تنشأ بين سياسيّ كبير ولاعب كرة شهير. فالتاريخ يخبرنا أن السياسيين بارعون في استغلال المشاهير وتجييرهم للدعاية لسياساتهم، سواء كان هؤلاء المشاهير رياضيين أم فنانين، أم شخصيات عامة أخرى. وقد ذكرتُ في مقال سابق لي عن كرة القدم أن الزعيم الفاشي الإيطالي بينيتو موسوليني كان يحرص على التقاط الصور مع لاعبي منتخب بلاده لكرة القدم، أبطال العالم في عامي 1934 و1938. وفي المقابل، نشاهد بين الفينة والأخرى كيف يهدي اللاعبون – خصوصًا في منطقتنا العربية- أي بطولة يفوزون بها إلى حاكم دولتهم، طمعًا في مكافأة ما على إنجازهم.

إذن؛ فالعلاقة بين السياسيّ ولاعب الكرة محكومة بالمصلحة في الغالب الأعم، لكنني مع ذلك أستطيع أن أزعم أن علاقة فيديل ودييغو نجت من هذا المزلق، رغم أن كليهما استفاد في النهاية استفادة عظيمة من الآخر. يقول كاسترو: "دييغو صديقٌ عظيم ونبيل للغاية، هو رياضي رائع، وقد حافظ على صداقة كوبا من دون أي مكسب مادي، من تلقاء نفسه". وهذا صحيح، فأول زيارة من مارادونا لكوبا كانت عام 1987م، بعد أشهر فقط من تربعه على قمة المجد الكروي، بفوزه مع منتخب بلاده بكأس العالم عام 1986م، أي أن كل أبواب وشبابيك الساسة آنذاك كانت مفتوحة له، وما عليه إلا أن يختار من أيها يدخل، لكنه رغم ذلك اختار الباب الذي يمكن أن تأتيه الريح منه؛ باب كاسترو المنبوذ -بتحريض من أمريكا- من أغلب دول المعمورة، لتبدأ صداقة عميقة بين الرجلين، أظن أن باعثها هو الصفات المشتركة بينهما، وأهمها التواضع والانحياز للفقراء والبسطاء، والميول الثورية ضد الإمبريالية العالمية. ولا أظن أن لاعب كرة قدم عالميًّا كانت له مواقف سياسية واضحة ومُعلنة ومنحازة للحق والعدالة الإنسانية مثلما كان مارادونا، لذلك سماه كاسترو "تشي الرياضة" مشبّهًا إياه بأيقونة الثورة العالمية تشي غيفارا، الذي كانت صورته بالمناسبة موشومة على ذراع دييغو، تمامًا كما هي صورة كاسترو الموشومة على ساقه اليسرى.

تحولت العلاقة بين كاسترو ومارادونا مع الزمن إلى علاقة أب بابنه، وهو ما أكده دييغو بقوله: "كان فيدل مثل والدي الثاني"، وفي عام 2000م، كان مارادونا قد بلغ الأربعين، وأفل مجده، وتقاعد من اللعب، ولم تبق له إلا الفضائح وإدمان المخدرات والبدانة المفرطة. وعندما حاول العلاج من ذلك تخلى الجميع عنه، ولم يبق له إلا صديقه الصدوق الذي استضافه في كوبا خمس سنوات، كانت كافية لعلاجه وإعادة تأهيله للحياة من جديد: "نصحني فيدل، فتح لي أبواب كوبا عندما كانت هناك عيادات في الأرجنتين أغلقت أمامي، وفتحها فيدل لي من القلب".

أحب مارادونا كاسترو وصادقه لمدة اقتربت من ثلاثين عاما، (أي نصف عمر دييغو) لأنه كان يعتقد أنه يعمل من أجل شعبه، وأنه قائد حرّ لا يرتضي بالرضوخ للإمبريالية العالمية. ولذا، فحين قرر مصادقة سياسيين آخرين فقد كان يختار الذين يشبهون فيديل، ومن هؤلاء الرئيس الفنزويلي هوغو شافيز الذي وصفه مارادونا بأنه "يكافح من أجل الناس وبلاده"، والرئيس البوليفي إيفو موراليس الذي وصفه بأنه "شخص متواضع كان يعمل دائما لصالح الناس الأشد فقرا"، وقد سانده عام 2008م في مواجهة قرار الاتحاد الدولي لكرة القدم (FIFA) حظر اللعب على ملاعب بوليفيا باعتبارها ترتفع كثيرًا عن سطح البحر، فلعب مباراة خيرية في العاصمة لاباز، وهو القرار الذي تراجع عنه "الفيفا" بعد ذلك. ولا ننسى طبعًا مساندته للقضية الفلسطينية وتصريحه الشهير في مونديال روسيا 2018م "أنا فلسطيني وقلبي فلسطيني". وفي المقابل نجد مارادونا يطالب بطرد الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن من قمة الأمريكيتين التي استضافتها الأرجنتين عام 2005م، ويهاجم سياسات الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب ويصفه بالدمية، ويظل مستمرًا في معاداته للسياسات الأمريكية، إلى درجة أن الولايات المتحدة رفضتْ منحه تأشيرة الدخول إلى أراضيها غير مرة.

ذات يوم نصح الروائي البرازيلي باولو كويلو قارئه بالقول: "انخرِطْ في الحياة إن كنت حيًّا ترزق، حرك ذراعيك، اقفز، أَحدِث جلبة، اضحك مع الآخرين، وتحدث إليهم، لأن الحياة هي بالضبط نقيض الموت. الموت هو المكوث للأبد في الوضعية نفسها، إن كنت كثير الهدوء فأنت لست في حياة". وإن كنا سنبحث عن أكثر شخصين كانت حياتهما تطبيقًا عمليًّا لهذه النصيحة فلن يكونا سوى فيدل كاسترو ودييغو مارادونا، الصديقان الحميمان اللذان انخرطا في الحياة معا، وأحدثا فيها جلبة كبيرة، فكافأهما الموت بأن أتاح للناس تذكُّرَهما في يوم واحد، هو الخامس والعشرون من نوفمبر من كل عام.