في بُنية علم الكلام

05 ديسمبر 2022
05 ديسمبر 2022

الدين.. في تنزله الأول كلٌ واحدٌ؛ لا يوجد تمايز بين تعاليمه وتطبيقها، فعندما يأتي نصٌ ليأمر بفعل حميد أو ينهى عن فعل قبيح؛ يكون مقصده الامتثال له، وليس تأسيس رؤية أخرى عليه. وعندما يحصل اختلاف في نظر الأتباع حول التعليم؛ فإن النبي يبيّن المقصود. وما يبدو أنه كلام نظري كقصص الأولين؛ فالغرض منها العمل، فهي إما أنها تقرر معتقدا صحيحا فيُؤمَن به ويعمل بمقتضاه، أو معتقدا باطلا فيُكفَر به وتُهجر دواعيه، وإما التسلية على المؤمنين فتسلوا قلوبهم، وإما عظة لغير المؤمنين؛ رجاء أن تخضع نفوسهم لباريها.

الإسلام.. خاتم الشرائع الإلهية؛ سار على هذه السُّنة. فالقرآن.. جاء لإصلاح النفوس والمجتمعات، لم تأتِ آياته للتنظير والجدل، بل للتنفيذ والعمل، وقد تكرر فيه الربط بين الإيمان والعمل الصالح: (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ)، وذم الله الجدال الباطل: (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ) [غافر:5]، بل أنه يردّ المجادلين إلى العمل الذي يعلمه الله منهم: (وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ) [الأنبياء:68]. لكن طبيعة الإنسان الجدل، وإذ كان الجدل حاضرا عند نزول الوحي؛ فإن الله صرف الناس عنه إلى الأمثال للامتثال: (وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا) [الكهف:54].

بعد عصر النبوة.. سرعان ما تعرضت آيات القرآن وأحاديث النبي للتأويل، حتى يواصل المؤمنون الاستمداد من نصوصهما، وكلما طال الأمد دعت الحاجة إلى مزيد من التأويل، وفي إطار البناء المعرفي لدى المسلمين تطورت الممارسات التأويلية لينتج عنها علم الكلام. التأويل.. من طبيعة العقل، فالعقل.. أداة تفسير وتحليل وربط تلقائية، فإذا ما وجد نصاً أو حدثاً؛ سارع إلى محاولة فهمه وربطه بأسباب ظهوره ومآلاته عبر آلة التأويل. فـ(التأويل.. بمعنى تحميل اللفظ أو النص دلالات جديدة لم تكن محملة فيه من قبل، أو حمل النص على المعنى البعيد بدلاً عن معناه القريب، لقرائن يستلزمها السياق؛ ظاهرة لغوية راسخة في العمل المعرفي الإنساني، وهي ما تبقي النص حياً، ولولا التأويل لقتل الزمنُ النصَ، وحنطه على أرفف التاريخ، ولمّا أن النص الديني يعد خالداً لدى المؤمنين به؛ فكان أكثر النصوص عرضة إلى التأويل من غيره، وذلك؛ لأجل أن يتواكب مع متغيرات الحياة) [العدوي؛ السياسة بالدين].

وظاهرة التأويل أسبق من علم الكلام، لأن التأويل خاصية عقلية مرتبطة بتفاعل الاجتماع البشري مع النص. أما علم الكلام فهو بناء معرفي له ظروفه الموضوعية في تبلوره، وقد ينشأ بعد مدة طويلة من مجيء الدين، مثلما حدث في اليهودية، فـ«علم الكلام اليهودي» ظهر في العهد الإسلامي. أو بعد مدة قصيرة مثل «علم الكلام الإسلامي». وقد يستنبط من النص مثلما هو لدى اليهود والمسلمين، أو ينبثق من واقعة معينة كما في «اللاهوت المسيحي»، الذي نشأ من النزاع حول حادثة صلب المسيح. بل هذه الظاهرة لم تقتصر على الأديان الكتابية، وإنما شملت أديان ما قبل الكتابة، فقد تكوّن لها «علم كلام» خاص بها، أفصحت عنه أشكال التماثيل التي عبدتها تلك الأقوام، وهذا أيضاً خاضع للحالة التشخيصية الملازمة للعقل. [العدوي؛ الصلاة من التشخيص إلى التجريد].

لكل دين ظروفه لنشأة علم كلامه، وبالنسبة لـ«علم الكلام الإسلامي» فقد دفع لظهوره مرحلتان، الأولى مؤسِّسة للثانية؛ هما:

الأولى.. الفتنة التي حصلت بين الصحابة، وانقسام المسلمين إلى فرق متقاتلة، وكل فرقة تدعي الحق، فكان عليها أن تستدعي الأدلة، خاصةً؛ من القرآن، فدخلت الفرق الإسلامية في جدل واسع، لتثبت بأنها على حق فيما فعلت، ولترد على استدلالات خصومها. ولأن النص الذي يرجعون إليه واحد وهو القرآن؛ فكان على كل طرف أن يستعمل سلاح التأويل لنصرة مذهبه، بل وصل الأمر أن تستدل الأطراف المتنازعة بنفس الآية، كل طرف يتأولها لصالحه، وينفي سلامة تأويل خصمه.

هذه المرحلة استمرت إلى نهاية القرن الأول الهجري تقريباً، اقتصرت على التأويل من خلال الآلة اللغوية؛ لاسيما؛ الشعر، والمقدمات العقلية المشتركة، دون أن تصحبها قضايا معرفية ما قبل إسلامية كقِدم العالم وحدوثه أو علم الله بالكليات أو الجزئيات، أو أدوات منهجية كاستعمال المنطق.

رغم أن من طبيعة النص قابليته للتأويل كما سبق بيانه؛ إلا أنه لدى المسلمين لم يحدث بصورة طبيعية، مسايراً لتطور المجتمع واحتياجاته المعتادة، وإنما حصل تحت لهيب الخلاف الدامي، وقصف منجنيق الحرب الأهلية المتبادل بين المسلمين، فجاء تأويل النصوص مشبعاً بالعنف والصراع.

الثانية.. ما بعد غزو المسلمين للبلدان المجاورة، واطلاعهم على ثقافات شعوبها، وبعد أن ترجمت كتبهم؛ وفي مقدمتها كتب الفلاسفة الإغريق، وكان أوج نشاط الترجمة في العهد العباسي من خلال «بيت الحكمة»، ففي القرن الثالث الهجري ترسمت معالم علم الكلام، وهذا الجدل لم يقتصر على المسلمين، بل شمل اليهود والنصارى، حيث إن لاهوتهم ترعرع واستوى خلال هذه المدة.

يُلحظ على نشأة علم الكلام لدى المسلمين أمران:

- لهيب الصراع الذي أوقد التأويل؛ أنضج كذلك علم الكلام، ولكن هذه المرة مشفوعا بأدوات منهجية، لم تظهر عنف البدن بقدر إظهارها عنف الجدل ذاته. تحوّل عنف اللغة إلى منهج معرفي؛ ساريا عبر الزمن، ومشكّلاً فتيلاً قابلاً للاشتعال كلما قدحته السياسة.

- إن علم الكلام لم يعد فطرياً كما كان التأويل، وإنما خالطته فلسفات الآخرين، كما أن في بنائه حصل تبادل في الأدوات المنهجية مع لاهوت الأديان، لاسيما؛ اليهودية والمسيحية.

يلخّص هذا المنحى تعريفُ علم الكلام ذاته؛ بأنه علم يقتدر به على الحجاج في القضايا الإيمانية والعقدية، والاحتجاج على الفرق الضالة والرد على شبهها. فالتعريف.. يحمل لغة الصراع مع الآخر وإقصائه. لقد ألّف المتكلمون كتبهم في تصنيف الناس إلى نحل ضالة وفرقة محقة، كلها تدور حول «حديث الفرقة الناجية»، التي أدعتها كافة الفرق، فأصبح ملخصاً لعمل علم الكلام.

على المستوى المعرفي والمنهجي لم يشهد علم الكلام جديداً بعد أن نضج في القرن الرابع الهجري، وهو عصر التوهج لمختلف العلوم الإسلامية. فمن أسباب جمود علم الكلام خفوت نجم المعتزلة الذين كان لهم القدح المعلى في بناء علم الكلام، فكان منهجهم هو المهيمن على الساحة، والفرق الأخرى مدينة لهم، بما في ذلك علم الكلام اليهودي واللاهوت المسيحي.

مع جمود علم الكلام وعدم قدرته على مواجهة المتغيرات الحادثة في مناهج التفكير؛ ظهرت دعوة إلى تجديده، ورغم قدم هذه الدعوة التي نافت على مائة عام إلا أنها لم تتمكن من تقديم حركة علمية قادرة على مواجهة المستجدات، والتي أصبحت تهدد المعتقدات الإسلامية، بل ظل علم الكلام القديم مهيمناً حتى عصرنا، فأدخل في المناهج الجامعية، وبسط له المجال في حلقات مشايخ الدين، فآتى أكله علقماً، ليس من حيث إخفاقه في الرد على النقد الموجه للعقائد الإسلامية فحسب، بل تصاعدت وفق مقرراته الفتنة المذهبية، وكفّرت المذاهب بعضها البعض، واتهم بالردة والإلحاد كل من حاول أن يصلح هذا المنهج، ونفذ المتعصبون عمليات إرهابية لقتل الناس، ففُجّرت المساجد بمن فيها من الركّع السجود، ناهيك عن سفك الدماء أينما واتت الفرصةُ أعمياءَ الفتنة؛ لا فرق في ذلك بين المدارس والأسواق والطائرات.

عن حركة التجديد في هذا العلم والدعوة إلى «علم كلام جديد»، سوف أخصص مقالاً بذاته، ليكشف هل لهذه الدعوة من أهمية، أم أن عصر علم الكلام ولى دهره وانتهى مفعوله، وأن المسلمين بحاجة إلى نظرية معرفية جديدة؟