غيوم حبلى بقوس قزح

17 أبريل 2024
17 أبريل 2024

في طفولتنا، عند نزول الأمطار، كنّا نستقبلها بالبهجة، فشكل الحياة، يتغيّر، وتضيء العيون، وتتأجّج المشاعر، وتعمّ الأفراح، في المكان، وتكون السعادة مضاعفة لسكّان المناطق التي تعاني من شحّ في المياه، وندرة سقوط الأمطار في سنوات الجدب، وهذه تحدث في مناطق كثيرة، وقد حدّثني رجل كبير بالسنّ عن تلك السنوات، وروى حكاية جرت في الثمانينيات. مفادها: ذات يوم سقط المطر بعد احتباس نزوله، ففوجئ أطفال كانت أعمارهم بين الرابعة والخامسة، لم يروا المطر من قبل، فشعروا بالخوف، وعادوا إلى منازلهم، مسرعين، ليقولوا لأمهاتهم: «نزل على رؤوسنا ماء من السماء»!

وتتواصل عطايا السماء، من ماء، وبَرَد، ويساعد الرعد بعض النباتات البرّيّة كـ(الفطر)، أو (الكمأ)، أو (الفقع) على الخروج من مخبئها، لذا تسمى (بنت الرعد)، فهي تنبت في الأماكن الخالية، والصحراوية، وبعد نزول الأمطار، ولمع البرق، واشتداد صوت الرعد، تتشقّق قشرة الأرض، فيقوم الذين يعثرون عليها بجمعها، وطهيها، وصنع منها وجبة غذائية لذيذة، غنيّة بالبروتينات، لذا يُطلق على الفطر تسمية (لحم الفقراء).

أمّا قوس قزح، فحكايته حكاية، فالألوان التي يصطبغ بها الأفق، على شكل قوس تجعلنا، عندما كنّا صغارا، نوقف ألعابنا، ونحدّق بهذه الألوان المرسومة على الأفق بعد توقف الأمطار، وسطوع ضوء الشمس، مباشرة، ومن خلال قطرات الضوء والمطر، يمتدّ قوس قُزح، على شكل نصف دائرة، بألوانه الباهرة، التي تبدأ بالأحمر، ثمّ البرتقالي، فالأصفر فالأخضر، فالأزرق، والنيلي، والبنفسجي، لتبثّ في النفس سعادة لا توصف، ليس فقط بسبب جمال الألوان، فظهوره يعني توقّف المطر، وعودة الحياة إلى طبيعتها، وتظلّ عيوننا معلّقة به، حتى اختفائه، منبهرين بهذه الظاهرة الطبيعية التي نسجت الشعوب حولها الأساطير، والخرافات، وألهمت الشعراء، يقول الشاعر سميح القاسم في قصيدته (تعالي لنرسم معًا قوس قزح) المنشورة في ديوانه ( في انتظار طائر الرعد):

«يتراءى وجهك المعبود

في وهمي

فأبكي.. وأغني

نحن يا غاليتي من واديين

كلّ وادٍ يتبنّاه شبح

فتعالي.. لنحيل الشبحين

غيمة يشربها قوس قزح»

ويبقى المطر عنوانًا لفرحة الأرض، والأشجار، والطيور، والأرض، والأنهار، هذه الفرحة سرعان ما تنتقل لأرواحنا، فتغمرنا بفيضها، مثلما يغمر المطر الأرض.

في سنوات بعيدة، كنّا، كلّما نزل المطر، نصفّق، ونغنّي، تحت زخّاته، نتقاذف حبّات البَرَد، حتّى تتبلّل ثيابنا، وحينما يزيد عن حدّه، تتشكّل البرك المائية التي تحول دون وصولنا للمدارس، وكان علينا، إمّا أن نعبرها باستخدام أحذية مطّاطيّة طويلة، أو ننتظرها حتى تجفّ، فتتحوّل تلك البهجة إلى ألم يظلّ دفينا في ذاكرة الطفولة.

في تلك السنوات، استوقفتنا قصيدة (أنشودة المطر) للشاعر بدر شاكر السيّاب وكانت مدرجة ضمن المقرّر الدراسي، كنموذج للشعر الحر، وخصوصا المقطع الذي يقول به:

مطر.. مطر.. مطر

أتعلمين أيّ حزن يبعث المطر

وكيف تنشج المزاريب إذا انهمر؟

وكيف يشعر الوحيد فيه بالضياع؟

مطر .. مطر.. مطر

وكم ذرفنا ليلة الرحيل، من دموع

ثم اعتللنا خوف أن نلام بالمطر»

وفي السطرين الأخيرين رسم صورة للدموع التي تسقط عند الوداع، تلك الدموع نحاول أن نخفيها، فندّعي أنّها قطرات من المطر، فيمتزج الوداع بالدموع والمطر، وتشتدّ تلك المشاعر عند نزول المطر، فغياب الشمس واختفائها خلف الغيوم، وهبوب الرياح الشديدة، وأصوات العواصف الرعدية التي تسبّب الفزع، والخوف، كلّها عوامل تؤثّر على النفس.

وحين كبرنا، وتكاثرت الغيوم المثقلة بالأمطار، في سمائنا، بقينا نحبّ المطر، مثلما تحبّه الأشجار، والكائنات الحيّة، وكيف لا نحبّه والناس يستبشرون بنزوله؟ يقول تعالى: «ومن آياته أن يرسل الرياح مبشّرات وليذيقكم من رحمته»، فالمطر رحمة للعالمين، ونعمة من نِعَم الله الكثيرة، ونزوله تجسيد لهذه الرحمة، التي تأتي لتكتمل دورة المياه في الطبيعة، يقول الله تعالى في كتابه: «وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته».

ورغم تشكّل الوديان، وجريانها، وما تسبّبه من حوادث، مؤسفة لمن يغامر بعبور هذه الوديان، تبقى عيوننا معلقة بالسماء، فكلّما امتلأت بالغيم استبشرنا بنزول المطر، الذي صرنا، بفضل نشرات الأنواء الجوّيّة، نعرف أوقات نزوله وأماكنه، وليس كما كنّا في تلك السنوات البعيدة، وفي هذه الحالة يمكننا تفادي الكثير من الحوادث لو أخذنا حذرنا، وتجنّبنا عبور الوديان، والابتعاد عن الشواطئ، وعدم الخروج من المنازل، ساعة جريان الأودية والسيول، إلّا للضرورات القصوى ليكون نزول المطر نعمة، لا نقمة على من لا يلتزم بتلك التنبيهات، حفظ الله الجميع، وأدام علينا نعمة المطر.