عن صالح شويرد ومُضْحِكين آخرين

12 يونيو 2021
12 يونيو 2021

سليمان المعمري -

جديرة بالتأمل المفارقات التي يعج بها زمننا «الكوروني» العجيب. ففي الوقت الذي انتشر فيه الضحك والتنكيت في المجتمع بصورة تبعث على القلق لا الفرح، يرقد أشهر ممثل كوميدي عُماني على فراش المرض. لكأنها كناية عن انتهاء دوره، إن رأينا الأمر بصورة سلبية، أو أن كوميديا التمثيل باتت عاجزة عن مجاراة كوميديا الواقع. وإن تحلينا ببعضٍ من مهارات مدربي التنمية الذاتية وقدرتهم المزعومة على رؤية الشمس في قاع البئر سنقول: إن هذا الفنان بعد أن نشر الضحك والابتسام في قلوبنا سنين طويلة، تلقّح الجميع بالضحك، وما عاد لوجوده داع.

صال صالح شويرد وجال في عِقْدي السبعينيات والثمانينيات بمسلسلات تلفزيونية وإذاعية لطالما أضحكتنا، لكننا حين نعيد مشاهدتها اليوم لا يعود الضحك بالقوة نفسها بقدر ما يعود الحنين لزمن جميل تسرّب من بين أصابعنا كالماء. سيفهم كلامي هذا أكثر من تجاوزوا الأربعين وباتوا مؤهلين أخيرًا لنيل أرض سكنية. والصحيح أن لكل زمانٍ دولةً ورجالًا يمارسون فيه الكوميديا، وما يُضحِك في عصر، قد يثير البكاء في عصر آخر، ونحن نحبّ صالح شويرد اليوم ليس لأنه مازال يُضحكنا، بل لأنه أضحكنا في الوقت المناسب.

كان المضحكون حينئذ قلائل يُعَدُّون على أصابع اليد الواحدة، لكنهم كانوا يعرفون كيف يضحكوننا بمرح، وينثرون في حاراتنا السعادة، حتى وإن كانت هذه الحارات مبتلاةً بالروتين، كما عبّر شويرد في أحد عناوين أعماله التلفزيونية. أما اليوم فقد كثُر المضحكون، «ولكنه ضحِكٌ كالبُكا» كما قال سيدنا أبو الطيب. حتى أن ابن خلدون نفسه تبرّم من الأمر، وقام من قبره ليشتمنا: «إذا رأيتَ الناس تُكثِر الضحك وقت الكوارث فاعلم أن الفقر قد أقبع عليهم، وهم قومٌ بهم غفلة واستعباد ومهانة، كمن يُساق للموت وهو مخمور»!.

ليس من قبيل الصدفة أن تتكرر الحبكة ذاتها في كثير من المسلسلات الإذاعية والتلفزيونية التي كتبها صالح شويرد: رجل وحيد وأعزل إلا من قلبه المُحِبّ للجميع يحاول أن يقدم رؤيته الإصلاحية للمجتمع في مواقف تعتمد على موهبته في التمثيل أحيانًا، وموهبته في التنكيت أحيانًا أخرى، ولا تخلو من هنات درامية وبعضِ خطابيةٍ مباشرة كانت المرحلة مستعدة لغضّ الطرف عنها. يحلو لي أن أقرب الفكرة بتشبيه شويرد - مع الفارق في الزمان والمكان والرؤية طبعًا- بالفيلسوف اليوناني ديمقريطس الذي كان يُلقّب بــ»الفيلسوف الضاحك» والذي كان يَضحَك من كل شيء، ويروي عنه الناقد الراحل شاكر عبدالحميد في كتابه «الفكاهة والضحك» أنه كان كثير الضحك حتى إن قومه ظنوه مجنونًا واستدعوا له طبيبًا خاصًّا هو الطبيب الشهير أبو قراط، لكن هذا الطبيب اكتشف بعد جلساته وحواراته مع الفيلسوف أنه كان يضحك من حماقات قومه، بل واستنتج أبو قراط أن ديمقريطس «هو أكثر الناس حكمة وجدية، فقد كان يضحك من أجل أن يكون جادا، وكان يلجأ إلى الضحك كوسيلة ذات طبيعة جيدة تساعده على التحمّل والمواجهة».

إنه لَأمرٌ نبيلٌ أن يسعى المرء لمواجهة الحياة وتحمل فظاظاتها بالضحك. لكنه إن فقد هذه القدرة على التحمّل سيتحوّل من كائن ضاحك إلى باكٍ حزين، ومع ذلك سوف لن يجرؤ على إظهار صورته الجديدة هذه لمحيطٍ لم يعتد منه إلا الضحك والمرح وحسّ الدعابة. لذا، فإنني أتصوّر أن شويرد إن اختار البكاء اليوم فلن يبكي إلا وقت هطول المطر، لكي لا يرى الناس دموعه، تمامًا كما كان يفعل شارلي شابلن. أما نحن فسنظل على ضلالنا القديم: التفرّج على الأعمال الكوميدية ضاحكِين ملء أشداقنا، ناثرين حولنا الفوشار، والضحكات، والبلاهات، دون أن ننتبه يومًا أن هؤلاء المُضحِكين ليسوا سعداء بالضرورة وإنْ أسعدونا بضحكاتهم. يروي علي عزت بيجوفيتش في كتابه «هروبي إلى الحرية» هذه الحكاية المعبّرة، التي يُمكن إسقاطها على صالح شويرد، أو إسماعيل ياسين، أو عبدالفتاح القُصَري، أو روبن وليامز، إلى آخر قائمة المُضحِكين الذين كانوا شموعًا تحترق - بالمعنى الذي يكاد يكون حرفيًّا - من أجل رسم ابتسامة على وجوه الآخرين، دون أن ينتبه لاحتراقهم أحد: ‏»في الوقت الذي اهتزت فيه نابولي من الضحك لعروض الممثل الكوميدي كارلينيا، جاء رجل لطبيب مشهور في تلك المدينة للسؤال عن دواء للسوداوية المفرطة التي أساءت إلى صحته، فنصحه الطبيب بالبحث عن تسلية والذهاب لعروض كارلينيا، فأجابه المريض: أنا كارلينيا!».

ألّا يجد المضحِك من يُضحكه ويخفف عنه هي واحدة فقط من عجائب وغرائب زمن الوباء هذا، وهي عجائب يبدو أنها لا تريد أن تنقضي. أن يغادرنا قبل أقل من شهر المُضحِكُ الكبير سمير غانم، علامة. أن يسبقه بيومين فقط عبدالخالق الغانم مخرج المسلسل الكوميدي السعودي الشهير «طاش ما طاش» علامةٌ أخرى. أن تكون مغادرتهما بعد أقل من شهرين من رحيل رفيق رحلة سمير غانم في الإضحاك الفنان جورج سيدهم، علامة ثالثة. أن يَسبِق هؤلاء جميعًا إلى المغادرة فنانانا الكوميديان العُمانيان سعود الدرمكي وعلي عوض، علامة رابعة. أن تغادرنا قبل عدة أسابيع أَشْهَر ضحكة في العالم؛ ضحكة الفنان الإسباني خوان خويا بورخا، علامة خامسة. والعلامات مازالت تتوالى، وآخرها رقدة صالح شويرد أشهر فنان كوميدي عُماني على فراش المرض.

نسأل الله أن يشفيه ويعافيه، وألا يحرمنا من الضحك والمضحكين.