عن أحوال الموسيقى في مدينة صلالة (2 ـ 3)
صلالة الولاية هي ظفار الصغرى، ذلك لأنها تضم أكبر تجمع سكاني في المحافظة، وتتمتع بجغرافيا متنوعة سهلية، وجبلية، وهذه الأخيرة تتكون من هضاب ووديان خضراء. وإذا كان لسكان صلالة المدينة الحضر فنونهم الموسيقية، فإن لسكان ريفها أيضاً فنونهم، والدور الأساسي في هذا الفرز الفني هي اللغات العربية المحكية ولهجاتها، وتنوع البيئة الجغرافية، واختلاف الأنشطة الاجتماعية الريفية والحضرية. والمجتمع الريفي كان يعتمد في نشاطه الاقتصادي على زراعة بعض المحاصيل الموسمية، وتربية الماشية وبيع منتجاتها. أما مدينة صلالة فكان فيها أكبر نشاط اقتصادي زراعي في ظفار وهو النشاط الرئيسي لسكانها إلى جانب التجارة وصيد الأسماك والصناعات الحرفية. إن هذا الواقع الاجتماعي والثقافي تعرض منذ السبعينيات من القرن العشرين للكثير من المتغيرات العميقة بحيث اختلطت فيه الحدود الجغرافية والعلاقات الاجتماعية والثقافية القديمة؛ فلم يعد لدينا مثلاً حدودا جغرافية واضحة للحضر باعتبارهم سكان مدينة بعد أن استوعبت صلالة المدينة والولاية الجميع.
في المقابل لم يعد بمقدور معظم سكان الريف متابعة حياة رعي الماشية بالطرق التقليدية، فمنهم الآن التاجر والموظف الحكومي، والكاتب، والمهندس، والطبيب، والفنان، ويتنقلون بواسطة أفضل وسائل النقل الحديثة، وربما منهم من يحرص على حضور عروض الموسيقى بدار الأوبرا السلطانية في العاصمة مسقط لتعذرها في صلالة العاصمة السياحية الصيفية لعُمان.
ولكن مع تعاظم هذه المتغيرات تراجع دور صلالة الفني ومكانة مطربيها وتأثيرهم في المشهد الفني تراجعا كبيرا بالمقارنة بما كانوا عليه قبيل نهاية القرن الماضي، ويمكننا الاستدلال على هذا التراجع من خلال مثال بسيط وهو: أسلوب تصميم الدعايات الترويجية للمشاركين منهم في الحفلات الموسيقية في موسم الخريف السياحي، لقد ظل منفذو هذه الدعايات لسنوات يتعاملون بنمطية واحدة مع حجم صور المطربين العُمانيين في هذه الإعلانات دون تغيير يذكر بحيث تكون أصغر حجما من صور المطربين الضيوف من خارج سلطنة عمان في الحفلات المشتركة كدلالة على مستواهم الفني الأقل، الأمر الذي يدل من وجهة نظري على حالة من الجمود في المشهد الموسيقي وفشل في إيجاد ظروف مناسبة لتطوير مهارات الفنانين العُمانيين في هذه المحافظة. فتلك المسارح المقفلة كان يفترض أن تشتغل على مدار العام، سواء من خلال تقديم عروض محلية أو عربية وأجنبية.
إن تفعيل هذه المسارح والقاعات طول العام مسألة استراتيجية وتنويرية ومن شأنها أن تؤدي إلى تحريك المشهد الموسيقي الراكد وشحذ همم المبدعين والموهوبين. فهذه المنشآت كلفت الدولة مبالغ ليس قليلة، فلماذا لا تعمل؟.
الواقع الموسيقي في ولاية صلالة وبقية ولايات المحافظة زاخر بالممارسين المحترفين والهواة خاصة في مجال الغناء والعزف على آلة العود، وأعتقد إنه لو فتحت هذه المسارح أبوابها للنشاط الموسيقي وغير الموسيقي سنرى حتما واقعا مختلفا، وتطورا مذهلا للفن الموسيقي، وقد لاحظنا ذلك في السبعينيات عندما انتعشت الممارسة الموسيقية، ولا نزال حتى اليوم غير قادرين على تجاوزها، ليس على صعيد الغناء فحسب بل وكذلك على صعيد العازفين الذين يعتمد عليهم أي نشاط موسيقي؛ فلا نجد حسب علمي في سوق الفن في هذه المدينة العريقة عازفا واحدا للآلات الموسيقية الأساسية المستعملة في التخت الموسيقي العربي مثل: الكمان، والناي، والقانون، وحتى العازفون على آلة العود وهم كثر يواجهون صعوبات واضحة لتنمية مهاراتهم الفنية.
وبتلخيص ما ذكرته في تمهيد هذا المقال، فإن عملية الاندماج الجارية بين سكان الريف والمدينة أدت إلى استيعاب المطربين الجدد من الأصول الريفية بعض أنماط الغناء الحضر، ومن الملاحظ أن أكثر المطربين العوديين هو من أرياف ظفار. وفي هذه المناسبة من الأهمية الإشارة إلى أن فنون غناء العمل في المدينة وريفها انقرضت أو تكاد تنقرض، والسبب يعود إلى انتهاء ممارسة تلك الأعمال في الزراعة أو الإنشاءات أو الصيد البحري أو الرعي من قبل المواطنين حفظة تلك الفنون الأمر الذي أدى إلى انقطاع توارثها وتولى الوافدون من جنسيات مختلفة معظم هذه الأعمال... للمقال بقية.
