صافرة جيفري هينتون

06 مايو 2023
06 مايو 2023

«هل ترى أن الأسباب التي طرحها جيفري هينتون Geoffrey Hinton لاستقالته من جوجل صادقة ومقنعة؟» هكذا طرحتُ السؤال على «تشات جي بي تي» متعمِّدًا كتابة اسم الرجل باللغة الإنجليزية منعًا لأي لبس لديه، ممنِّيًا نفسي بإجابة شافية أعرف من خلالها الأسباب الحقيقية وراء إعلان «الأب الروحي للذكاء الاصطناعي» استقالته هذا الأسبوع من عمله في شركة جوجل التي عمل بها لأكثر من عشر سنوات. وكان هينتون قد صرّح بُعَيد إعلان الاستقالة لشبكة CNN يوم الثلاثاء الماضي: «أريد أن أُطلِق صافرة الصافرة وأقول إننا بحاجة إلى أن نكون جادّين بشأن كيفية منع هذه الأشياء من السيطرة علينا».

صُدِمتْ أن روبوت الدردشة الشهير الذي يُعَدّ أحد أبناء هينتون، يرد عليّ حرفيًّا: «ليس لدي معرفة بتفاصيل الأسباب التي طرحها Geoffrey Hinton لاستقالته من جوجل، ولكن يمكن القول بأن الأسباب التي يعلن عنها المشاهير والشخصيات العامة عند استقالتهم ليست دائمًا الأسباب الحقيقية والكاملة وقد تكون هناك عوامل أخرى لا تظهر علنًا. ومن الصعب الحكم على صحة أو صدق هذه الأسباب بدون معرفة كافية بالحالة والظروف المحيطة بها».

إن هذا الرد من «تشات جي بي تي» لا يَدُلّ على أن «هذه الأشياء تزداد ذكاءً أكثر منا» كما قال هينتون في مقابلته آنفة الذكر، حتى إنني تشككتُ في ذكاء روبوت الدردشة الذي لا يعرف ربما أن كبير العلماء في شركة Open AI التي طورته وجعلته قادرًا على الحديث في أي موضوع ليس سوى أحد طلاب هينتون، فسألتُه: «هل تعرف جيفري هينتون؟»، فأجاب على الفور: «نعم، جيفري هينتون هو عالم حاسوب وباحث في الذكاء الاصطناعي، يُعَد من بين الشخصيات الرائدة في هذا المجال، وهو أيضًا أستاذ في جامعة تورنتو بكندا وزميل في معهد الذكاء الاصطناعي في جامعة كاليفورنيا في بيركلي. ويُعد هينتون من مؤسسي تقنية تعلم الآلة العميقة Deep Learning، وقد أسهم بشكل كبير في تطوير هذه التقنية واستخدامها في مجالات مختلفة مثل

التعرف على الصوت والصورة واللغة الطبيعية وغيرها، وله العديد من المساهمات والأبحاث المهمة في هذا المجال. كما أنه حاصل على جائزة تورينج Turing Award لعام 2018، وهي أعلى جائزة في مجال الحوسبة».

إذن فالبرنامج لا يزال بعقله، ويعرف كل شيء عن أبيه الروحي، لكن لأن برمجته متوقفة ربما في عام 2021 فهو لم يسمع بعد باستقالة عالِم الحاسوب الشهير التي أتشكك أنا الآن في أسبابها. ذلك أن الرجل خبير في مجاله منذ سبعينات القرن الماضي وتعامل مع الذكاء الاصطناعي كل هذه السنين، لكنه لم ينتبه لخطورته إلا عام 2023 بعد أن أتم خمسة وسبعين عامًا من عُمره وصار يعرف أن ما بقي له من العُمر ليس بقدر ما ذهب، تمامًا كـ«ألفريد نوبل» عندما وخزه ضميره وهو في أخريات حياته على اختراعه الديناميت الذي جنى منه ثروة طائلة، فقرر أن يضع جوائز باسمه تكفّر عن خطيئته الكبرى.

الأسباب التي طرحها هينتون في استقالته وجيهة، وأولها تخوفه من أن تتجاوز الآلة صانعها، يقول: «كنتُ شخصيًّا أعتقد أن ذلك لن يحدث إلا في غضون ثلاثين إلى خمسين سنة أو ربما أكثر، وبالطبع، لم أعد الآن أعتقد ذلك». لكن ما الفرق بين اليوم وعام 2083م مثلا؟ هو أن هينتون لن يكون موجودًا على الأرجح، وإذن؛ فهو يعلم أن الذكاء الاصطناعي يسير بنا إلى هاوية سحيقة، لكن لا مشكلة لديه ما دام ذلك سيحدث وهو ميت!، أما وقد بكّرت المشكلة في الحدوث فلا بد لضميره أن يستيقظ!. السبب الثاني اقتصادي؛ وهو تقليل الذكاء الاصطناعي فرص الوظائف في كل المجالات، وقد سبقه عالِم الاقتصاد بول كروجمان؛ الحائز على جائزة نوبل للاقتصاد عام 2008م في طرح تساؤل حول هذه النقطة في مقال له في نيويورك تايمز: «... ما حجم مثل هذه الآثار -الاقتصادية- هذه المرة؟ وما مدى السرعة التي تتحقق بها؟»، ويجيب كروجمان: «الإجابة على السؤال الأول هي: لا أحد يعرف حقا. فالتوقعات بشأن الأثر الاقتصادي للتقنية اشتهرت بعدم موثوقيتها. وبالنسبة للسؤال الثاني يشير التاريخ إلى أن ظهور الآثار الاقتصادية الكبيرة للذكاء الاصطناعي سيستغرق وقتا أطول من التوقعات التي تدور في أذهان العديد من الناس حاليا».

وأيًّا كانت الأسباب الحقيقية وراء استقالة هينتون، والتي ذكر منها أيضًا التخوّف من تطوير روبوتات قاتلة، ووقوع الذكاء الاصطناعي في أيدي جهات خبيثة تستخدمه لأغراض شريرة، وتحوّله إلى «مولّد تفاهات» لكثرة استخدامه ومَدِّه بالمعلومات المضللة، أيا كانت هذه الأسباب فإن «صافرة» هينتون التي نفخها في الولايات المتحدة سمعها العالَم كلّه من أقصاه إلى أقصاه، وستوفّر سببًا إضافيًّا مهمًّا للأصوات المطالِبة بكبح جماح هذا التسارع المذهل في تطوير الذكاء الصناعي، وقد رأينا كيف أن الرئيس الأمريكي جو بايدن ونائبته كمالا هاريس هرعا بعد أيام قليلة من هذه «الصافرة» للاجتماع بالرؤساء التنفيذيين لشركات التكنولوجيا العملاقة في الولايات المتحدة ونبّهاهم إلى «مسؤوليتهم الأخلاقية»، وأخبراهم بأنهما يدعمان سن تشريعات جديدة تنظّم العمل بالذكاء الاصطناعي.

سليمان المعمري كاتب وروائي عماني