شهد والاكتئاب المبتسم..
20 سبتمبر 2025
20 سبتمبر 2025
فريدة من نوعها كانت الأمسية التي نظمتها مساء الخميس الماضي الكاتبةُ والمحاميةُ عذراء حمود في «المزن مول» بالتعاون مع منصة مجاز ومكتبة حبر، في الذكرى الأولى لرحيل ابنتها المؤسف. وإذا كانت كثير من حالات الانتحار تمر وتُنسى بعد فترة قصيرة من حدوثها وتربعها على عرش التريند، فإن عذراء أرادت ألا تذهب حياة ابنتها شهد سُدى، فقررت أن تجعلها طريقًا لتوعية الناس بخطورة الاكتئاب، وضرورة اللجوء للطب النفسي في حال حدوثه، وعدم التحرج من ذلك، والابتعاد عن إصدار أحكام جاهزة على المصابين به، ووصمهم بصفات ما أنزل الله بها من سلطان، كالابتعاد عن الدين مثلا.
اختارت عذراء للجلسة الحوارية اسمًا دالًّا ويبدو غريبا للوهلة الأولى: «الاكتئاب المبتسم: مضت بصمت وتركتنا لضجيج السؤال: كيف ولماذا؟». وتكمن الغرابة في وصف الاكتئاب بالمبتسم، إذْ لم نعتد أن يحمل صفة كهذه. لكنه موجود في الواقع ويُستخدم لوصف أشخاص يخفون أعراض الاكتئاب خلف مظهرٍ مرِحٍ وممارسة طبيعية للحياة اليومية، أو لنقل إنهم لا يوحون للمحيطين بهم بأنهم مكتئبون. ثمة إنسان يبدو أمامنا مبتسمًا يؤدي واجباته الاجتماعية والمهنية بتمكّن، لكنّ بداخله حزنًا عميقًا يذكّر ببيت الشعر الشهير: لا تحسبوا رقصاتي بينكم طربًا / فالطير يرقص مذبوحًا من الألمِ. هذا الحزن العميق يرافقه فقدان متعة، وإرهاق، وشعور بالذنب أو عدم القيمة، مع تغيّرات في النوم والشهية. باختصار هي أعراض الاكتئاب الكبرى لكن مع قناع اجتماعي يخفيها. والخطورة هنا أن هذا النوع من الاكتئاب تكون إمكانية الانتحار بسببه أعلى، لأن معاناة المصاب به تبقى خفية وغير مكتشفة في حين أنه يملك الطاقة الكافية لإيذاء نفسه، وهذا ما حدث لشهد التي استسلمت له لشديد الأسف وهي لم تتجاوز ربيعها السابع عشر.
ولأن فترة المراهقة حبلى بالكثير من التقلبات المزاجية فإن سؤالا يفرض نفسه بقوة: هل الاكتئاب المبتسم يرتبط فقط بهذه المرحلة من حياة الإنسان؟ طرحت هذا السؤال مديرةُ الجلسة الكاتبة هدى حمد على الطبيبة النفسية الدكتورة بسمة آل سعيد، فكان جوابها أن الأمر مرتبط بالهرمونات التي لها دور كبير في تغير المزاج، ولا يكون ذلك حكرا على المراهقين فقط، بل يمتد إلى كل الأعمار، مستشهِدةً بالممثل الكوميدي الأمريكي الشهير روبن وليامز، الذي كان يَضحَكُ كثيرًا ويُضحِك، ولكن ذلك لم يمنعه أن يفاجئ العالم بالانتحار عام 2014 بسبب الاكتئاب.وإذن؛ فإن «الحب أحيانا، ورغم عظمته، لا يكفي لإنقاذ من نحب»، كما قالت الكاتبة زوينة سالم في نصّها التأبيني الجميل لشهد، الذي تساءلت في بدايته: كيف يمكن لفتاة تهتم بجمال دفترها أن تفكر في الانتحار؟، في إشارة إلى دفتر المذكرات الذي تحدثت عنه أم شهد في حوارها الإذاعي مع المذيعة خلود العلوي لقناة «هلا أف أم». هذا الدفتر كشف من خلال يوميات الفتاة الكثير من خبايا حالتها النفسية، وتضمن يومية كتبتْ فيها بالحرف: «فقدتُ السيطرة». ولعله لهذا السبب كتبت زوينة في نصها: «نحن نعرف الانتحار من وجهة نظر الأحياء فهل تعرفون كيف يراه المنتحرون؟» وقررتْ تقمُّص دور الفتاة والتساؤل على لسانها بحرقة: «هل تعلمون أن الروح خفيفة ولكن روحي ثقيلة، وغير قادرة على أن أطيق هذا الحبس؟». وقد برعت الكاتبة في تخيل اللحظات الأخيرة للمنتحِر وما يدور في خلده حينئذ: «الجزء الذي أراد الرحيل راقب بهدوء بينما الجزء الذي أراد البقاء كان يتوسل «..» كنت أرحل ببطء ولكن الحياة كانت تمضي بسرعتها المعهودة «..» ما من دروس ولا وصفات سحرية لأقدمها لكم. ليست الشجاعة في الرحيل ولكن في البقاء يوما آخر».في رواية «القوس والفراشة» يكتب الروائي المغربي محمد الأشعري فقرة ذات مغزى، تصلح أن تكون تلخيصًا لمأساة شهد التي رحلت في 18 سبتمبر 2024: «لا أحد يملك شيئا لأحد، وأن كل شخص في هذا العالم مهما كانت له من علاقات صلبة وحميمية فإنه لا يواجه مصيره إلا وحيدًا ومعزولًا، وباستعداد فطري للاكتئاب والبكاء على النفس، وأنْ لا أحد، أبدًا، لا أحد، يحقق سعادته بسبب الآخرين مهما كانوا قريبين منه، وأحباء. لا تتحقق أي لحظة سعادة كثيفة أو هشة إلا من خلال التفاصيل التي نعثر عليها في دواخلنا». لم تعثر شهد على سعادتها، فقررت البحث عنها في مكان آخر. ولعل رسالتها الباقية لنا أن نفتح قلوبنا لأحبائنا أكثر، وألا يخدعنا مظهرهم الهادئ المبتسم، فيجعلنا نتقاعس عن محاولة رؤية دواخلهم، وسماع ما يطنّ داخلهم من هواجس.
سليمان المعمري كاتب وروائي عماني
