دفاعا عن المقامات العربية ( 4-4 )
تطورات في صناعة آلات الموسيقى العربية:
تحت هذا العنوان أعلاه، سأتحدث عاجلا عن أهمية المبتكرات في مجال صناعة آلات الموسيقى العربية في هذا الوقت الذي تتطور فيه مهارات العازفين بشكل كبير جدا وينتشر التعليم الموسيقي إلى جانب دعوات المحافظة على الموسيقى المحلية وأنظمتها الثقافية. من هنا أدعو المعنيين بالموسيقى العُمانية والعربية إلى ملاحظة التطورات في صناعة آلات الموسيقى العربية، وتنظيم حلقات عمل التي من شأنها أن تنمي روح الابتكار في الاختصاصات الموسيقية المباشرة والموازية وإلى اقتناء الابتكارات الجديدة التي تناسب المراحل التعليمية المختلفة وتحدث فارقا واضحا في استراتيجية المحافظة على الهوية الثقافية للموسيقى العربية والعُمانية. وفي هذا السياق أشدد على أهمية المهن الموازية في تنشئة أجيال الموسيقيين مثل: تقنيات صناعة الآلات الموسيقية، والبرمجيات، وعلم الصوت والتقنيات ذات الصلة.
وقد اطلعت منذ عدة سنوات على بعض الجهود المبذولة من قبل صانع الآلات العُماني الأستاذ يوسف الأزكي، وهو من أبرز المشتغلين في هذا المجال في بلادنا المعروفين عندي على الأقل.
ولكن لماذا صناعة آلات الموسيقى العُمانية والعربية شديدة الأهمية؟، وللجواب على هذا السؤال الأساسي سوف أبين بعض الفروقات الأساسية المتصلة بصناعة الآلات وأهمية محافظتها على اللغة الموسيقية وتلبيتها لتوقعات العازفين وجذب للمتعلمين.
فمعظم المقامات العربية لا يمكن استخراجها من آلات الموسيقى الغربية بسبب " بعد الثانية المتوسطة " باستثناء الوتريات، فلو أخذنا مثلا مقارنة عاجلة بين مقام الراست الأكثر شهرة في عُمان والبلاد العربية، ومقام دو ماجير الشهير في الموسيقى الغربية، نلاحظ أن سلم مقام الراست يتكون من بعدين موسيقيين هما: الثانية الكبيرة، والثانية المتوسطة، فيما يتكون مقام دو الكبير من بعدين كذلك ولكن مختلفين عن مقام الراست هما: الثانية الكبيرة والثانية الصغيرة، وعليه فإن جميع الألحان العُمانية والعربية من مقام الراست وغيرها من المقامات التي يتركب سلمها من هذا البعد المتوسط لا يمكن عزفها على آلات ذات الدوزان الثابت مثل البيانو وآلات النفخ الغربية الشائعة في مختلف المعاهد الموسيقية العربية، ولكن في هذا السياق من الأهمية بمكان ملاحظة أن آلة القانون العربية ( الآلة الكاملة إن جاز الوصف)، يمكنها استخراج المقامين وكل المقامات الشرقية والغربية، والحال كذلك مع الآلات الوترية.
وفي هذا السياق نلاحظ تطورا ملحوظا في صناعة آلة العود في بلدان الجزيرة العربية من مدينة المكلا بحضرموت جنوبا إلى البحرين شمالا، ولكن حسب علمي ظلت آلة القانون خارج نطاق اهتمام هذه الصناعة الناشئة في هذه المنطقة، بسبب أن صناعتها تتطلب قياسات خاصة بناء على نظرية موسيقية معروفة الأمر غير المتوفر في الجزيرة العربية حتى وقتنا، وبشكل عام آلة القانون تصنع حسب علمي بأشكال ومعايير متنوعة في الشام ومصر وتركيا وغيرها. وهي لا تزال من أهم آلات الموسيقى العربية، وفي الفترة الأخيرة تعرفت على أستاذين جليلين من لبنان العزيزة لهم نشاط كبير ومهم في الممارسة الموسيقية كعازفين وملحنين ومعلمين إلى جانب إنهما مبتكرين ومطورين لصناعة آلتين موسيقيتين شرقيتين وهما: الدكتور هيّاف ياسين الذي يعمل أستاذا في كلية الموسيقى وعلم الموسيقى في الجامعة الأنطونية بلبنان وله إسهامات كبيرة في إحياء آلة السنطور وتطوير صناعته، والدكتورة ماريا مخول الأستاذة في جامعة لبنان والكونفستوار اللبناني مبتكرة "آلة القانون المصغر التربوي"، وفي تعليقها على الأسباب التي دعتها لهذا الابتكار قالت: "إن الخروج من العباءة الموسيقية الغربية المسقطة على مناهجنا التربوية الموسيقية المدرسية سواء لجهة الموسيقى بحد ذاتها أو لجهة الآلات التي تستعمل في التدريس، الأمر الذي دفعني إلى ابتكار واستنباط آلة القانون المصغر التربوي"، وقد لاحظت أن الدكتورة في لقاءات مختلفة (باليوتيوب) تعالج العديد من الإشكاليات من واقع تجربتها كمعلمة بشأن فوائد إشاعة استعمال آلة القانون المصغر التربوي وأهميته في المحافظة على الهوية الثقافية للموسيقى العربية وتنشئة الأجيال على هذا الحس الوطني من خلال تعلم موسيقاهم على الآلة الموسيقية السليمة ذلك أن هذه الآلة صغيرة الحجم وخفيفة الوزن ورخيصة السعر بالمقارنة مع القانون الكبير، وهي تغطي ديوانين موسيقيين وهذا في اعتقادي مناسب جدا لطلاب الموسيقى، والحال كذلك على آلة السنطور التي ابتكرها الدكتور هياف ياسين.
إن هذه التطورات مهمة جدا من وجهة نظري، ذلك إننا في الوقت الذي نتحدث فيها كثيرا عن وجوب المحافظة على التراث الموسيقي (في عمان أو أي بلد عربي آخر) فإنه سيبقى مجرد كلام إذا لم يرتبط باستراتيجيات وطنية وعربية وتعاون مشترك بشأن المحافظة على آلات الموسيقى العربية والعُمانية وتطوير صناعتها في إطار نظامنا الموسيقي العربي ومقاماته الموسيقية.
