دفاعا عن المقامات العربية (1-4)
عنوان مقالي اليوم استعرضه في أربعة أجزاء، أخصص المقال الرابع لبعض التطورات على صعيد صناعة بعض آلات الموسيقى العربية الأصيلة التي تهدف بشكل مباشر إلى تسهيل تدريسها لطلاب الموسيقى العربية في المراحل الدراسية المختلفة، وفي كل الأحوال يمكن اعتبار هذه المقالات استكمالًا لبعض ما جاء في مقالين سابقين في هذه الزاوية، كان الأول بعنوان: «هل للجزيرة العربية سلمها الموسيقي الخاص؟»، والثاني نشر في الأسبوع الماضي وعنوانه: «عن الضروب الإيقاعية المركبة».
ومع احترامي لدعاة ألا مقامية فمن وجهة نظري المقام هو محور التعبير الموسيقي، والدرجات النغمية هي الحروف الهجائية للغة الموسيقية التي يتكون منها السلم الموسيقي وهو العمود الفقري للشجرة المقامية، وضابط العلاقات بين أبعاد الدرجات النغمية، والواقع، هناك فرق بين المصطلحين ودلالاتهما، فالتعبير الفني وظيفة للمقام، فيما وظيفة السلم الموسيقي تحديد نسب الدرجات والعلاقة بينها، وبناء عليه تصنع الآلات الموسيقية بحيث يمكنها استخراج هذه الدرجات والأبعاد وتكرار السلم الموسيقي في طبقات صوتية عديدة في بعض الآلات بما تسمح به القدرات السمعية للبشر، وأهم آلات الموسيقى العربية في هذا السياق آلة القانون، وفي الموسيقى الغربية آلة البيانو.
وهكذا، في الوقت الذي يتشكل السلم الموسيقي من مجموع الدرجات النغمية وأبعادها صعودًا وهبوطا بناء على ما ترسخ في الذوق والممارسة والنظرية، تجتمع هذه الدرجات كذلك لبلورة حالات مختلفة من الطبائع والأحاسيس، لهذا أهل المغرب العربي يسمون المقامات الطبوع، ومن هنا، تبدأ خصوصية المقامات العربية ذلك أن المقام يتكون من قسمين هما: جنس المقام وفرعه، ويتسع الأخير للكثير من الاستنباطات المقامية الفرعية، لهذا كثُر في الممارسة عدد المقامات وأسمائها وفروعها انطلاقا من جنس الفرع، كما قد تكون الدرجة النغمية الواحدة منطلقًا للعديد منها، وقد لاحظت في «كتاب مؤتمر الموسيقى العربية 1932» وجود ثمانية عشر مقاما تستقر جميعها على درجة الراست فقط، وتختلف أما في علامات الخفض أو الرفع أو في جنس الفرع مثل: مقام الراست، ومقام النهاوند. وطبعا هناك إمكانيات لتصوير هذه المقامات من درجات أخرى ولكن هذه قضية أخرى.
وقد مر السلم الموسيقي العربي بتطورات نظرية عديدة منذ العهد العباسي إلى وقتنا هذا. وحسب كتاب: «الموسيقى العربية، أصول المقامات والإيقاعات»، الذي اشترك في تأليفه ثلاثة من عمالقة تعليم الموسيقى العربية في مصر هما: الأستاذة الدكتورة لندا فتح الله، والأستاذة الدكتورة إيزيس فتح الله، والأستاذ عبدالمنعم عرفة (رحمة الله عليهما) يتكون السلم الموسيقي العربي نظريا «من أربعة وعشرين بعدًا صغيرًا، يساوي كل منها ربع البعد الكبير (ربع درجة نغمية) تقريبا.. والبعد الصوتي هو النسبة بين نغمتين مختلفتين في الدرجة»، وتختلف النسب بين السلم الموسيقي الطبيعي والمعدل. ولكن من المهم ذكره إن الممارسة في البلاد العربية ثرية ومتنوعة، وهذه الأرباع النظرية لا يتفق بشأنها الممارسون ولا حتى المنظرون في جميع الأحوال، ولكن البلاد التي لم تضبط سلمها الموسيقي نظريًا على الأقل يقع تراثها ولغته الموسيقية تحت التأثير الخارجي.
ويمكن ملاحظة بعض تلك التأثيرات الخارجية على الموسيقى العربية المعاصرة في توجه البعض نحو تقنين عدد المقامات العربية بحجة أن أبعاد سلم المقام تبقى نفسها لا تتغير مهما تغيرت درجة الركوز أو الاستقرار، بمعنى: عندما يبدأ مقام الهزام مثلا من درجة العراق يسمى مقام راحة الأرواح، ويتساءلون ما حاجة إلى تغيير اسم هذا المقام الذي يبدأ في الأصل المتعارف عليه من درجة السيكاه ؟.
ومن وجهة نظري، السلم الموسيقي العربي لا يزال سلمًا طبيعيًا لم يجري تثبيت أبعاده تثبيتًا حسابيًا أو رياضيًا، والمتبع الآن دوزنة الآلات الموسيقية العربية على الاستقرار الصوتي لدرجات النظام الموسيقي الغربي المعدل، كما أن عدد من الممارسين والمنظرين عندهم مشكلة مع أسماء درجات السلم الموسيقي العربي المتوارثة ويريدون إلغاءها، مثل: يكاه، عشيران، عجم عشيران، عراق، كوشت، وغيرها، وهي مسميات معظمها فارسية ولا يمكن استعمالها في قراءة النوتات (الصولفيج)، وعوضا عن ذلك تستعمل ألفاظ مقتبسة من نظرية الموسيقى الغربية، مثل: دو، رى، مي، إلى آخره، وهي أسهل ومناسبة للقراءة، واحتفظت المقامات والدرجات النغمية بأسمائها التراثية تلك وهي في المقابل حديثة الاستعمال عندنا في الجزيرة العربية. ولكن في المقابل، تحتفظ الدرجات النغمية في السلم الموسيقي الغربي المعدل برموزها غير تلك التي تقرأ بها النغمات التي اقتبسناها، وهي عبارة عن حروف هجائية من اللغة الإنجليزية على الأقل وتستعمل كثيرا في الهارموني. وقد تختار بعض الشعوب توجهًا آخر كما في الموسيقى الهندية التي تقرأ بألفاظ خاصة بها: سا، رى، جا، ما،با، دا، ني، سا. وقد ناقشت هذه المسألة في عنوان فرعي «ما بين الراغا والمقام»، ضمن كتابي: «الدليل المصور، أنماط الموسيقى التقليدية العُمانية» الصادر عام 2015 عن مركز عُمان للموسيقى التقليدية... للمقال بقية.
___________
مسلم بن أحمد الكثيري موسيقي وباحث
