خطبة عيد الفطر.. وأفق التحول الديني

22 مايو 2023
22 مايو 2023

كان الإنسان وكان الدين معه، وفي البدء كانت الكلمة التي يخاطب بها الإنسان معبوده، وبعضد الدين قامت حضارات، وبمعوله زالت دول. إنَّ كل الفلسفات التي تنبأت بغروب شمس الدين كسرابٍ بقيعة، ففي العصر الحديث.. عملت العلمانية على فصل الدين عن السياسة ولم تستطع إلى ذلك سبيلا، وقصارى جَهدها أنها أزاحت الأحكام الدينية عن القانون، وبقي الدين يعمل في الاجتماع البشري. لقد قلت في كتابي «السياسة بالدين»: (لا دين بدون سياسة، ولا سياسة بدون دين. حتمية تأريخية، حاول الإنسان المعاصر بدولته المدنية أن يخرج عنها، فلم ينجح إلا بمقدار ما يكفل للفرد اختياراته الدينية التي لا تصادر على الآخرين اختياراتهم، وهي رؤية جاء بها القرآن من قبل، إلا أنه تمت مصادرتها في تطور النظرية المعرفية لدى المسلمين). وعمان.. بلد يحكمه الدين منذ الأزل، ولما جاء الإسلام سارع العمانيون إلى الدخول فيه، فتكونت لهم نظريتهم السياسية؛ وهي بالأساس تقوم على العدل. فالعمانيون.. لا يسلسون القياد إلا من سار فيهم سيرة العدل والاعتدال.

وفي الدولة الحديثة.. اتخذت سلطنة عمان نهجا واضحا في الجانب الديني، حيث نصَّ «النظام الأساسي للدولة» على أن (دين الدولة الإسلام، والشريعة الإسلامية هي أساس التشريع). إن هذا المبدأ الدستوري جاء في إطار تحوّل الدولة نحو النظام المدني، فبعد أن كان الفكر الديني ممثلا في الفقيه، إما أنه حاكم أو معارض للحاكم، سلكت الدولة لأول مرة في تاريخها العماني طريقا بينهما، حيث أصبح ضمن مؤسسات الدولة، فأنشئت وزارة العدل والأوقاف والشؤون الإسلامية. ثم أعقبتها وزارة الأوقاف والشؤون الدينية عام 1997م؛ تمهيدا لدخول الدولة في مرحلة التعددية الفكرية، باعتبار أن هناك أديانا أخرى تتبعها شريحة كبيرة ممن يعملون في السلطنة؛ وبعضهم أصبحوا عمانيين بالتجنّس. وكانت قيادات هذه المؤسسة تُختار من الحقول الفقهية المعروفة بعمان، لكيلا تحصل فجوة بين إدارتها للعمل الديني المؤسسي والمجتمع، وأتوقع أن هذه السياسة لن تصمد كثيرا مع التحولات القادمة.

أخذ الخطاب الديني خطين متوازيين: الخط الفقهي التقليدي وخط إدارة الشأن الديني، وعمليا؛ كان الخط الثاني يخدم الأول؛ وإن تميّز بتوجهه للداخل، واهتم الثاني بالتواصل الخارجي، لكن لم يكن له بدٌ من اعتماد خطاب الخط الأول لأنه كان وحده المتاح. وهذه المرحلة استمرت حوالي الثلاثة العقود الأولى من النهضة الحديثة.

ومع مرحلة التعددية الفكرية، ونضج الدولة مؤسسيا، ووجود كوادر مؤهلة علميا وإداريا، فإنه خلال العقدين الأولين من هذا القرن الميلادي تمايز الخط الأول عن الثاني، فالأول.. عمل على الحفاظ على المكتسبات الفكرية التي أحرزتها الدولة في الداخل، عبر الفقه التقليدي المعمول به في البلاد، وتوجه الخط الثاني إلى الخارج بـ«نظرية التسامح» عبر «مؤتمرات التسامح»، وبإصدار مجلة «التسامح»، ثم حملت اسم «التفاهم». وأخيرا.. كما أن خطاب الأول بدأ يضعف تأثيره في الداخل؛ فإن خطاب الثاني لا يلامس الخارج، مما يلزم التحول إلى مرحلة يتجدد فيها الخطاب.

هذا العقد.. حصلت تحولات في المنطقة عموما، فالخطاب السلفي.. أخذ في الانكماش، ولم يعد عموم دول المنطقة تدعمه، كما أن اندلاق باب العالم الافتراضي على مصراعيه؛ انعكس على تفكيرنا المحلي، فبدا الخط الأول حريصا على الدفاع عن رؤيته الفقهية بحماسة عبر نوافذ هذا العالم، وهنا بدأت تظهر الفجوة بينه وبين الرسالة التي ينبغي أن يوصلها الخط الثاني عالميا، مما يستلزم أن توحّد الوزارة خطابها؛ داخليا وخارجيا، وهذه هي المرحلة التي بدأنا نلحظها، وتأتي خطبة عيد الفطر هذا العام تدشينا لهذا التوافق بين الخطين.

تأتي أهمية الخطبة.. أنها بحضور مولانا جلالة السلطان هيثم بن طارق أدام الله مجده، في «مسجد الخور»؛ ذي الدلالة التاريخية والعميقة في الإعلان عن معالم الخطاب الديني الذي تتبناه السلطنة، وأمَّ المصلين معالي الدكتور محمد المعمري وزير الأوقاف والشؤون الدينية. فالخطبة.. تحمل سياسات الخطاب الديني الذي يُتوجه به إلى الشعب والعالم الخارجي، ولذا؛ فإن من الأهمية ألا يمر دون أن تتوجه إليه الأقلام بالدراسة والتحليل، وتضعه في سياقه من بُنية الدولة.

وأهم النقاط التي تطرقت إليها الخطبة المؤسِّسة للخطاب القادم؛ هي:

- أن الخطبة مست الجانب العملي، فلم توغل في الحديث عن الجوانب النظرية؛ التي غالبا ما تطغى على الخطاب الديني، وهي خطوة تشي بأننا مقبلون على مرحلة عملية في الحياة، وطبعا؛ لا يمكن الاستغناء عن الحافز الديني، فهو من أهم الدوافع في مجتمعاتنا المسلمة؛ يقول معاليه: (ومع هذه المنن والنعم والشكر عليها ما بقي العمانيون في جاذبية الماضي، بل انطلقوا منه إلى بناء الحاضر واستشراف المستقبل، وتحويل الأمنيات إلى واقع وممارسات، وجعلوا الأفكار مقومات للنمو والازدهار، من تنمية شاملة، واقتصاد مستقر وشعب متماسك، وأرض طيبة، وعلاقات متينة وتمكين للشباب، وتقدير لمكانة المرأة).

- غاب خطاب الوعيد من الخطبة.. وهذا تحول لا يتجاوز التقليد المتبع في الخطبة عادة فحسب، وإنما هو انتقال بالذهن المسلم؛ إلى مرحلة جديدة من تمثّل خطاب التسامح.

- الخطبة.. رصدت جانبا من الواقع الذي يعيشه المجتمع؛ وهو تصاعد نبرة التشدد التي يمارسها البعض؛ فجاء خطابها رافضا «الغلو» و«التطرف»: (وإذا تدبرنا آيات الأمر بالصيام؛ فقد جاء بعدها قول الحق تعالى: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) «البقرة:185»، تأكيدا على أن الدين يسر ورحمة، ودين سعادة وانشراح، والعبادات وسطية وتسهيل، وبهذا الوعي تتوازن في نفس المؤمن الأعمال فلا يغلو، ويسترشد في سلوكه بالرحمة فلا يتطرف، وينشد التقوى فلا يضل ولا يشقى، وفي القرآن العظيم: (هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) «الأنبياء:78»، وقال صلى الله عليه وسلم: (يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا)، وقال: (يا أيها الناس إياكم والغلو في الدين، فإنه أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين).

- بخلاف المعتاد في الخطاب الديني؛ بأنه هو وحده ينبغي أن يسود العالم؛ فإن الخطبة ركّزت على أننا جزء من العالم، الذي من الطبيعي أن نختلف معه ويختلف معنا، وعلينا ألا نخاف منه ولا نخيفه: (أيها المسلمون.. لسنا في هذا العالم وحدنا، بل يتفاعل معه أمم وشعوب كثيرة من غيرنا، نختلف معها، وتختلف عنا، نشترك معها في مصالحنا أو نتقاطع، والحكمة تقتضي الثبات على مبدأ الإحسان، والتعايش مع من حولنا بكرامة وسلام، وأن نتعامل مع العالم، لا أن نخاف منه، ونشاركه أخلاقنا وحضارتنا لا أن نخيفه، فهذا نهج القرآن الحكيم: (وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ) «القصص:55»). ويؤكد معاليه على التعامل مع العالم بالأخلاق والتعارف: (ولهذا التعامل مع العالم الواسع بعدان ومقتضيان: بُعد في النفس حول هوية العمل والعدل والأخلاق، وبُعد مع الآخر بانتمائنا الإنساني والإسهام؛ إسهام المعرفة والتعارف والاعتراف).

- هذا التحول شمل كذلك الدعاء؛ فقد جرت العادة بأن تُختم الخطبة بالدعاء بأن يغفر الله للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، لكن معاليه آثر بأن يدعو قائلا: (اللهم اغفر لكل من آمن بك، الأحياء منهم والأموات).

ختاما.. استشرفتُ التحول في التوجه الديني بالسلطنة منذ مدة، حيث كتبتُ عنه في «السياسة بالدين»؛ 2017م، فقلت: (وإذا كانت الدولة قد رعت الرؤية الفقهية المتمثلة في طرحها التقليدي السائد عموما في العالم الإسلامي، فإنها أيضا لن تجد محيصا عن رعاية هذا التوجه «الذي يشهده المجتمع»، وضمه ضمن بنائها المؤسسي والقانوني، لاسيما؛ مع نشأة مؤسسات المجتمع المدني).