حسين غباش.. الحاضر بعد رحيله

20 أبريل 2024
20 أبريل 2024

يحمل الوسط الثقافي العُماني للباحث والمفكر والدبلوماسي الإماراتي الراحل حسين غباش (1951-2020) محبة كبيرة يكاد لا ينافسه فيها أي مثقف إماراتي آخر عدا الشاعر الراحل أحمد راشد ثاني، والسبب هو نفسه؛ أن هذين المثقفين الإماراتيين كان لكل منهما اهتمام كبير بالتاريخ والتراث العُماني. غير أن غباش الذي أحيت مؤسسة بيت الزبير ذكراه مساء الثلاثاء الماضي بتدشين كتاب شقيقته رفيعة غباش عنه "حضر بعد رحيله: المفكر الدكتور حسين غباش"(كلمات، 2021)، يتفوق على ثاني من وجهة نظري لأنه استطاع بكتابه المهم «عمان: الديمقراطية الإسلامية، تقاليد الإمامة والتاريخ الإسلامي الحديث» الذي هو في الأصل بحث دكتوراه نالها من جامعة "نانتير- باريس العاشرة" الفرنسية أثناء عمله مندوبًا دائمًا للإمارات في اليونسكو، وصدرتْ طبعتُه العربية عام 1997 عن دار الجديد اللبنانية بترجمة أنطوان حمصي، استطاع بهذا الكتاب إثارة إعجاب عامة العُمانيين، جنبًا إلى جنب مع المثقفين، بدراسته لنظام الحكم في عُمان خلال الفترة ما بين عامَي 1500 و1970، والتي خَلُصَ فيها إلى أن "مبدأَيْ الشورى والبيعة – الإجماع والتعاقد - مضافًا إليهما قيم المساواة الاجتماعية والمساواة أمام القانون ومبادئه تمثل ركائز الديمقراطية الإسلامية في عُمان، وفلسفة الثقافة الاجتماعية والسياسية لدولة الإمامة".

من هنا أفهم احتشاد الجمهور بأعداد غفيرة لحضور محاضرته في القاعة (1) بجامعة السلطان قابوس يوم الثلاثاء 15 ديسمبر 2009، رغم أن المحاضرة كانت في العاشرة صباحا في يوم عمل رسمي، وهو ما اضطر المنظِّمين إلى إتاحة مشاهدتها تليفزيونيًّا في قاعة مجاورة، امتلأت هي الأخرى بالحضور عن بكرة أبيها. وفي مقاله المنشور في "حضر بعد رحيله" يفسّر الباحث العُماني محسن الكندي؛ مدير مركز الدراسات العُمانية؛ الذي نظّم المحاضرة، يفسّر ذلك الحضور الكثيف بأن العُمانيين كانوا "متعطشين لرؤية وسماع صوت باحث عالِم أيقظ فيهم حس الديمقراطية وأوجده في ذواتهم، وحقق لديهم صحوة التاريخ ونشوة الحقائق كما قرأوها في كتابه".

في حوار لغباش لمجلة "الثقافية" أجراه معه د.محمد الحجري ونُشِر في عدد نوفمبر 2010، ثم أُعيد نشره في كتاب "حضر بعد رحيله"، يسرد المفكّر الإماراتي رحلته مع التاريخ العُماني التي استمرت قرابة عشرة أعوام، والتي يسميها «رحلة العمر»، ويصفها بأنها رحلة غنية بكثير من المعارف، يقول غباش: "كانت رحلة في التاريخ والجغرافيا والسياسة، مكنتني من التعرف على خصائص الشعب العماني، على ثقافته، عرفتني على الفكر الإسلامي، والفكر العربي بصورة عامة. وأخيراً أثمرت كتاب عمان والديمقراطية الإسلامية». وفي ظني أن قراءة هذا الكتاب اليوم بالذات ستؤدي بنا إلى وعي مختلف بالديمقراطية التي أثبتت أحداث "طوفان الأقصى" وما تلاها، أن نموذجها الغربي (أي الديمقراطية) قائم على الانتقائية واللا مساواة والكيل بمكاييل متعددة ولا تطبق على جميع البشر. وفي الحوار المُشار إليه لمجلة "الثقافية" نفى غباش تهمة الانغلاق عن المجتمع العُماني التي لصقت به عبر تاريخه، إذ أكّد أن "الثقافة العمانية لم تغلق المجتمع العماني بقدر ما أعطته عمقًا ضمن تحصينه ورسم إيقاعاته. وبمعنى آخر كما يقال لم تؤدِّ إلى شوفينية عمانية بل أدت على النقيض إلى التأكيد على الأصالة الحية المنفتحة على الآخر"، ويضيف أنه "ربما هنالك سكونية في الوجه المذهبي. لكن هذا الذي قد يسميه البعض الانعزال العماني هو الذي حافظ على جوهر الثقافة العمانية، على جوهر الإنسان العماني وعلى تمايز الهوية العمانية عن باقي المجتمعات العربية والخليجية خاصة".

حوى كتاب "حضر بعد رحيله" عددًا غير قليل من القصائد التي نُظِمتْ والتغريدات التي كُتِبتْ بُعَيْدَ رحيل غباش، لكن الأهم أنه تضمن شهادات مهمة عن الكاتب الراحل، تكمّل بعضها البعض، وترسم بورتريهًا شبه متكامل عن حسين غباش إنسانًا ومناضلًا ومثقفًا ذا فكر حر، فها هو عبد الرحمن أحمد الشملان؛ زميله في وزارة الخارجية الإماراتية ثم في وفد الإمارات الدائم في جنيف يستشهد بعبارة لغباش تشي باستقلاليته وعدم إقدامه على أي عمل دون اقتناع: "اسمعني جيّدا. عندما يقنعني شخص بأمر ما، فإنني سأستميت في الدفاع عنه، أما أن يأمرني فقط، فأنا آسف لن أهتم". وها هو معن بشور (المفكر والكاتب السياسي) يُلفتنا في شهادته إلى "قلقه الفلسفي والفكري الدائم الذي جعله يتنقل بصدق بين أكثر من مدرسة فكرية مقتربًا - في سنوات عمره الأخيرة - من الصوفية التي جذبته إليها - وفق قوله - بما توفره من سلام داخلي وصفاء نفسي"، وهي التجربة التي أثمرتْ كتابه "التصوف: معراج السالكين إلى الله" (الفارابي، 2016م). أما الكاتب والناشط الحقوقي البحريني عبدالنبي العكري فيستعرض ضمن مقال طويل بعض مؤلفات حسين غباش، ومنها، عدا ما سبق ذكره في هذا المقال: "أمريكا وحقوق الإنسان في العالم الثالث: فلسطين، إيران، جنوب إفريقيا» (الكلمة، 1981)، و«فلسطين حقوق الإنسان وحدود المنطق الصهيوني"(المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1987) و«الإمارات والمستقبل وقضايا راهنة» (الفارابي، 2008)، و"محمد: قراءة حديثة في سيرة رسول النور والسلام» (الفارابي،2018)، و"الجذور الديمقراطية في الخليج: الكويت والبحرين؛ تاريخ الشعوب الصغيرة" (الفارابي، 2010)، وهذا الكتاب الأخير يذكره الكاتب البحريني حسن مدن في مقاله في "حضر بعد رحيله"، وينوّه بإيلاء المؤلف عناية كبرى بتفاصيل التطور التاريخي في منطقة الخليج من زواياه المختلفة، مرتكزاً على قاعدة منهجية رصينة، وأدوات تحليل علمي. ونشير هنا إلى أن كتابًا وحيدًا صدر لغباش بعد رحيله هو "التراث الروحي للإسلام: تصوُّف الخلفاء"(الفارابي، 2022).

تمنيتُ أن يكون عنوان الكتاب "الحاضر بعد رحيله"، لأن الصفة توحي بالاستمرارية، وهو ما لا أظنه يتوفر في الفعل الماضي "حضر". ورغم العناية الواضحة به، ورفده بالكثير من الصور الملونة، إلا أنه كان في أمسّ الحاجة إلى نظرة تحريرية أخيرة قبل دفعه للطباعة، لتلافي بعض الهفوات المعلوماتية الصغيرة، ومنها على سبيل المثال إيراد صورة سماحة الشيخ أحمد بن حمد الخليلي في مطلع الصفحة التي تتحدث عن شعراء مجلس الخليلي، بدلًا من صورة مؤسس المجلس الشاعر عبدالله بن علي الخليلي، ومنها أيضًا المعلومة الخاطئة التي أرخ بها الدكتور محسن الكندي إقامة أصبوحة حسين غباش في جامعة السلطان قابوس، حيث ذكر أنها أقيمت في عام 2012، والصحيح أنها في عام 2009، ومن هذه الهفوات أيضًا تعريف قصة قصيرة لحسين غباش بعنوان "القديسة" منشورة في صحيفة البيان في 27 أبريل 1988 على أنها مقال، وكم تمنيتُ أن تكون هذه القصة مُفرَّغةً كتابةً داخل "حضر بعد رحيله" وعدم الاكتفاء بالصورة التي لا يمكن قراءة حروفها الصغيرة، لنقف نحن القراء على هذه التجربة الأدبية لغباش كما وقفنا على تجربته الفكرية.

سليمان المعمري كاتب وروائي عماني