جسور «السيابي».. حكاية وطن

19 نوفمبر 2025
19 نوفمبر 2025

دأب الدكتور سعيد السيابي على كتابة روايات ترتبط بالتاريخ العماني والبيئة العمانية، ولو راجعنا روايته (جبرين وشاء الهوى) الصادرة عام 2016م لوجدنا التاريخ حاضرا، رغم أنه ينفي انتصارها للتاريخ، كونها ليست أكثر من «رسم لخيال تعلّق بمكان»، وتتحدّث الرواية عن حصن جبرين الذي بناه الإمام بلعرب بن سلطان اليعربي (بويع إماما سنة 1679م)، ليكون سكنه الخاص، ويتطرّق إلى أحداث تاريخية دارت في القصر، وإذا انتقلنا إلى روايته الثانية (الصيرة تحكي) سنرى أنّها تتحدّث عن الاحتلال البرتغالي لعُمان في الفترة التاريخيّة الممتدّة بين 1506 و1648م، وهي الفترة التي شهدت الاحتلال وقتال العمانيين للبرتغاليين وطردهم من أرضهم. فيما تناولت رواية (جابر: الوصيّة الأخيرة) حياة التابعي والفقيه جابر بن زيد (642ــ712م)، مبتدئا من مشهد وفاته، ليعيد سرد أحداث تاريخية شهدها في رحلة حياته.

وفي روايته الجديدة (جسور متداعية) التي صدرت عن مؤسسة شرفات الدولية - دار لبان للطباعة والنشر بالتعاون مع وزارة الثقافة والرياضة والشباب، لم يبتعد السيّابي عن التاريخ العماني، لكنه لم يتطرّق إليه بشكل مباشر، خصوصًا أنّ معظم الأحداث تجري خارج عُمان.

فقد ترك السيّابي لبطل روايته أن يروي صفحة مضيئة من هذا التاريخ من خلال طوافه في عدّة بلدان. وفي هذا الطواف يسرد حكاية من تاريخ عمان الحديث من خلال رحلة شاب عماني إلى الخارج، هربًا من واقع لم يكن مؤهّلًا لتلبية طموحاته.

فالبطل يعلم أنّ قريته الصغيرة، التي تحمل اسمًا لا وجود له على الخارطة (جبل الأفق الشرقي)، كانت في يوم من الأيام مركزًا لصراع قوى النور والظلام. وهو خلال توغّله في أحداث الحياة اكتشف «أنّ الأحداث الغامضة ليست سوى نتاج صراع قديم بين قوى النور والظلام، وأنّ كلّ ما يحدث هو ذروة ما كان مشتركًا بينها في الماضي».

ولذا فهو يجدها تقف عائقًا بينه وبين أحلامه، كونها لم تعد تلبّي طموحات «شاب في مقتبل العمر، وهو يسمع عن فرص الحياة خارجها».

لذا غادرها إلى مسقط حاملًا بيده حقيبة صغيرة بدشداشة واحدة، ثم ركب سفينة خشبيّة توقّفت في دبي والبحرين والكويت وصولًا إلى القاهرة.

ويواجه ظروفًا صعبة في الأماكن التي يقيم فيها، فيجد نفسه قد زُجّ في صراعات داخليّة تجري في تلك العواصم، خلال أحداث الرواية التي تجري في حقبة الستينيات، حيث كانت الحركات الوطنية في المدن التي زارها في قمّة نشاطها. واعتاد، حين تتأزّم الأمور، أن ينتقل إلى عاصمة أخرى، وهكذا يحطّ الرحال في دمشق، ثم ينتقل إلى بيروت، ومنها إلى باريس وإسطنبول.

ورغم كلّ ذلك يظلّ مشدودًا إلى قريته وبلاده بحبال سرّيّة، فالجسور التي أوصلته إلى هذه المدن ستتداعى وتختفي، ومن هنا يأتي عنوان الرواية، فـ«جسور متداعية» يشير إلى أنّ تلك الجسور التي عبر من خلالها إلى العالم الخارجي كانت هشّة وضعيفة البناء.

ورغم دخول بطل الرواية في علاقات نسائيّة حاولت إخراجه من عزلته وفراغه الوجداني، وخوضه للعديد من التجارب، وانخراطه في الدراسة والعمل، يبقى ينقصه شيء كشف عنه في الصفحة الأخيرة من الرواية.

إذ يقول الراوي، الذي هو البطل: «كنتُ بحاجةٍ ماسةٍ لأن أتحرّك، لأن أستعيد تواصلي بالحياة، أن أفتح صدري للهواء الطلق من جديد، أستنشق عبق تاريخ عُمان». وهنا يتسارع الحدث، ويلقي الكاتب مفاتيح الحلّ بين يدي بطله المأزوم، ليُخرجه من ضياعه.

فيقول على لسان البطل: «وصل لمسامعي بأن عُمان دخلت في أعتاب يومٍ جديد بتفاؤلٍ أنه سيغيّر مجرى مصائر أهلها، وأن رياح الحرية التي بدأت تتنفّسها اندفعت بطمأنينةٍ وهدوء.. ووصل صداها للعالم». ليعيدنا إلى يوم النهضة في 23 يوليو 1970م، فيقرّر العودة إلى قريته، من حيث انطلق، لتتداعى كلّ الفواصل التي جعلته بعيدًا عن أرض الوطن، ليبدأ حكاية جديدة ينسج خيوطها على تراب الواقع الجديد.

لقد وضع الكاتب في أولى عتبات الرواية جملة يقول فيها: «شخصيات هذه الرواية ليست واقعية، إنما هي انعكاس لخيال تدثّر بحكمة الواقع».

وقد أراد بهذه الجملة أن يعمّم الحكاية، ولا يحصرها ضمن نطاق ضيّق، فحكاية بطل رواية (جسور متداعية) هي حكاية كلّ شاب عماني تفتّح وعيه في الستينيات، وعاش تلك الأحداث التي انتهت بإشراقة فجر جديد أطلّ على عُمان.

رواية مكتوبة بلغة فيها الكثير من السلاسة والجمل الشاعرية المبنيّة بإحكام، فتشدّ القارئ، وتجعله يتابع الأحداث حتى نهاية الرواية. فالسيّابي يحرص على مدّ جسور مع القارئ، ذات أسس متينة، وهو يروي لهم حكاية وطن.