تمرد اللغة على نفسها.. والثورة الحضارية
نَعْتُ اللغة بالتمرد.. أمر لا يخلو من غرابة؛ فما بالكم بوصفها متمردةً على نفسها، لربما مدعاة ذلك هو مما حُمِّلتْ به كلمة «التمرد» من دلالات سلبية كالعتو، ومنه مردة الجن والإنس. إن حصر الكلمة على معنى محدد هو من ضيق الاستعمال، وإلا فإن دلالات اللغة في الكلام تتسع، بل هي في اتساع مستمر. المقصود بالتمرد هنا.. هو الظهور بقوة، وهو ظهور له جوانب إيجابية وسلبية، وفي الحالين؛ هو مهم لحركة الحياة. والمقصود بالثورة الحضارية.. النهضة الشاملة التي تحدثها اللغة في الاجتماع والاقتصاد والسياسة والعلم والفكر. ويكفي أن بيتين لأبي القاسم الشابي(ت:1934م) ألهبا حماس الثوار في «الربيع العربي» :
إِذا الشعبُ يوماً أراد الحياةَ
فلابد أنْ يستجيبَ القدر
ولابد لليلِ أنْ ينجلي
ولابد للقيد أن ينكسر
إن أسطورة برج بابل تحكي بُعداً فلسفياً عن تمرد اللغة وتأثيرها على الاجتماع البشري، تقول إحدى رواياتها: إن الناس جميعاً كانوا يعيشون في بابل، يتكلمون لغة واحدة، فأرادوا الصعود إلى الإله فبنوا برجاً، وأخذوا في إعلاء طوابقه بغية الوصول إليه؛ إلا أنه منعهم فدمّر البرج، وتفرق الناس في آفاق الأرض، فتبلبلت ألسنتهم، فأصبحت لكل قوم لغتهم. فكأن الأسطورة تقول: إن الناس أرادوا الرقي بصعودهم إلى السماء متماثلين، بلغة واحدة، إلا أن الحياة اقتضت أن يكون رقيهم بتنوع لغاتهم على الأرض. إن جمود «النسق اللغوي» لا يمكنه أن يعمل حراكاً في الاجتماع، فلابد أن «تتمرد» اللغة على نسقها القديم إلى حد التشظي لكي تحدث ثورتها. هذه الأسطورة.. ليست من الحكايات الشعبية العابرة، بل هي رؤية كونية لتأثير اللغة على البشر، وتلقي ضوءاً على حجم هذا التأثير، ومن تجذّر الأسطورة؛ أنها ولجت إلى بعض الأديان، فالتوراة -مثلاً- تحدثت عنها، وجعلت العِبرية -لغة التوراة- اللغة الأم التي رشحت منها اللغات.
طُرِحتْ نظريات في أصل نشأة اللغة؛ منها:
- أنها نشأت متطورة بتطور الإنسان، فعلاقته بالبيئة هي ما دفع باللغة إلى الوجود والتطور، فالإنسان.. عندما انتبه لحفيف الريح؛ اشتق منه اسماً لصوتها، وعندما جاع وتأوه؛ اشتق من تأوهه اسماً لحالته تلك، وهكذا في سائر نطقه.
- أن الإنسان حصلت له طفرة في جيناته، أثّرت على امتداد حلقه وتركيب حبال حنجرته وشكل فكّي فمه، مما صيّرته ناطقاً.
- أن رغبة الناس في النميمة على بعضهم البعض؛ دفعتهم إلى أن يهذروا فيما بينهم، حتى نطقوا ليوصلوا حديث نفوسهم إلى بعضهم، ثم تطورت اللغة شيئاً فشيئاً.
هذه النظريات.. حتى الآن لم يقطع العلم بثوبتها، ومع ذلك؛ يمكن أن نلحظ التمرد فيها. ففي الأولى.. تمرد اللغة على طبيعة الإنسان «العجماء»، مما دفعه أن يستوي كائناً مختلفاً عمّا حوله، فأحدث ثوراته المتعاقبة التي أوصلتنا إلى إعمار الأرض. والثانية.. تكشف عن التمرد الجذري الذي أصاب البشر بفعل الطفرات في جيناتهم، ونظرية الطفرات فُسِّر بها كثير من ظواهر الحياة، بما فيها نشأة الكون وتنوع الكائنات الحية. وأما الثالثة.. وهي أضعف النظريات؛ فلا تخلو من بُعد ثوري كذلك، فهي تحكي رغبة الإنسان بأن يتمرد على بني جنسه بالنميمة عبر اللغة. هكذا نرى أن التمرد ثاونٍ في طبيعة اللغة.
وعندي.. أن اللغة معطىً إلهي. وهذا لا ينفي تطورها، فالإنسان ذاته خلقه الله أطواراً، ومن الطبيعي؛ أن تكون لغته متطورة. وأقصد بالمعطى الإلهي أن اللغة نتاج تفكير الإنسان المرتبط بوعيه، وقد تقرر لدي.. أن الإيمان والأخلاق والوعي هي من نفخة الروح التي أودعها الله في الإنسان. لم تكن اللغة خارج المنطق، فهي تنبثق من العقل الذي يملك منهجاً فكرياً ذاتياً، بحيث لا تخرج الفكرة من العقل إلا محكومة به. إن التطور اللغوي المتأثر بالبيئة أو النابع من حالات الإنسان -مع أهميته كما سيرد- ليس هو ما يصنع منطق اللغة، فاللغة.. في تطورها محكومة بالمنهج الذي يمتلكه الإنسان نتيجة «الروح الإلهي» فيه.
للبيئة.. أثر كبير في تطور اللغة، ففي ظروف موضوعية مواتية يحدث أن تتمرد اللغة؛ بحيث نلمس عقبه ثورة اجتماعية كبرى، فكما أن ظهور اللغة منطوقة هو أول وأهم تمرد للغة؛ فإن كتابتها كذلك تمرد لا تخفى أهميته، لأن الكتابة لم تكن تقييداً لمنطوق اللغة فحسب، وإنما انتقال لها من وضع لآخر، فالمجتمعات.. التي لم تتمكن من تدوين لغتها؛ تأخرت عن الركب الحضاري، فبالإضافة إلى جمودها؛ هي عرضة للانقراض، بل انقرض العديد من اللغات التي لم تدوّن بذهاب الناطقين بها، وبقيت اللغات التي دُوّنت، وحتى بعد فناء ناطقيها؛ أعيد بعث بعضها من الألواح التي حنطت فيها.
ولنعرف مدى تأثير البيئة على اللغة؛ علينا أن ننظر في أمر بعضها، فالكتابة الصينية.. لم تتطور كثيراً، لأن الصينين طُبِعوا على التقليد، فكتبوا لغتهم بأشكال الصور القديمة، ولم يتخلوا عنها مع تقادم الزمن بهم، وهذا تفسره حالة التقليد المكينة في الصناعات الصينية. وأما اللغة اللاتينية.. التي كتبت بحروف منفصلة؛ تكشف عن قدرة العقل الغربي على القفز في معطياته الحضارية، وينشئ مدنيات كبيرة، فهو لا يعوقه تنافر مفردات الحياة، حيث كان قادراً على أن يصطنع منها ما يتقدم به في الفعل الحضاري. وهو ذات الأمر الذي حصل لسكان «المنطقة العربية» القدماء الذين بنوا حضاراتهم الفخمة، فقد كانوا يستعملون خط المسند غير متصل الحروف.
وأما كتابتنا العربية.. فهي سليلة الكتابة الآرامية، واللغات المنبثقة عنها تكتب بحروف متصلة؛ وهذا عائد إلى سعة الخيال، فالخيال.. يأتي مترابطاً متماسكاً، وآية ذلك.. القصيدة العربية؛ فهي ذات وحدة موضوعية متماسكة، وقد تطرق مواضيع شتى إلا أنها تأتي في نسق مترابط. وهذا ما نراه في النص الحكيم، حيث إن السورة في القرآن «وحدة موضوعية»؛ تشتمل على قضايا عديدة تأتي في بُنية متآصرة.
وهكذا؛ نرى أن الكتابة حكت لحظة عميقة من تمرد اللغة، فقد استطاعت أن تنقل تأثيرات البيئة عليها من خلال الكتابة. وهذا التمرد يتواصل مع اللغة بمقدار تفاعلها الاجتماعي، فاللغة العربية.. ولأنها حيوية؛ استطاعت أن تتمرد على نفسها باستمرار، وهذا نعرفه من آدابها وعلومها. فالشعر.. إن كان عند الأمم ملاحم أسطورية أو لوحات جمالية، فإنه عند العرب ديوان حياتهم؛ بوقائعها واجتماعها وآمالها وآلامها وأديانها وقصصها، دون أن يفقد الشعر أسطرته، أو يخفت بريق جماله، ولا يزال محافظاً على تأثيره الاجتماعي.
إن التنزيل الحكيم يحكي بنفسه تأثير بيانه القوي، فقد حيّر العرب الذين ملكوا ناصية الشعر، وتفننوا في أساليب البلاغة، فجاءهم بأسلوب لم يألفوه في شعرهم ونثرهم. وحوّل العرب من أمة خاملة الذكر إلى قائدة للأمم، وصنع لهم حضارة هيمنت ردحاً من الزمن. ولم أجد نقلة كبرى أحدثها كتاب ذو بيان كالقرآن، فقد أخرج البشر من عالمهم القديم «غير المنظور»؛ الذي لم تدوّن أحداثه -غالباً- إلا بأوشاب أسطورية، إلى «عالم منظور»؛ حيث كتب العرب أيامهم وعلومهم وآدابهم باستمرار.
وعندما جاء العصر الحديث؛ تمكنت لغة العرب من التمرد على الأساليب القديمة لتوجد أسلوبها الحديث، وقد برعوا في ذلك، فظهر أدباء كبار كأمير الشعراء أحمد شوقي(ت:1932م)، وعميد الأدب طه حسين(ت:1973م)، وبرز فيهم مالك زمام النثر كمصطفى المنفلوطي(ت:1924م) ومصطفى الرافعي(ت:1937م)، ومحرر الفكرة بأسلوبه البديع كعباس العقاد(ت:1964م)، ومشعل جذوة العاطفة الدينية في القلوب كسيد قطب(ت:1966م).
هذا التمرد.. لم يقتصر على العربية وحدها، فاللغة.. لها قوانينها العامة، وعندما تتوفر ظروف التمرد لأية لغة؛ فإنها تتمرد لتحدث ثورتها في الاجتماع البشري.
